السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

{ إلى ربها } أي : المحسن إليها خاصة باعتبار أن عد النظر إلى غيره كلا نظر { ناظرة } أي : دائماً هم محدقون أبصارهم لا غفلة لهم عن ذلك ، فإذا رفع الحجاب عنهم أبصروه بأعينهم بدليل التعدّي بإلى ، وذلك النظر جهرة من غير اكتتام ولا تضامّ ولا زحام كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهم ، وأكثر المفسرين ، وجميع أهل السنة ، وروي عن النبيّ عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة من وجوه كثيرة بحيث اشتهر غاية الشهرة ، وتكون الرؤية كما مثلت في الأحاديث كما يرى القمر ليلة البدر أي : كل من يريد رؤيته من بيته يراه مجلياً له ، هذا وجه الشبه ، لا أنه في جهة ولا في حالة لها شبيه تعالى الله الكريم عن التشبيه .

فمن تلك الأحاديث ما روي عن جرير بن عبد الله قال : «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا ، ثم قرأ { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } » [ طه : 130 ] .

وفي كتاب النسائي عن وهب قال : «ينكشف الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم » .

وعن جابر قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجلى ربنا عز وجل حتى ننظر إلى وجهه فيخرون له سجداً فيقول تعالى : ارفعوا رؤوسكم ، فليس هذا يوم عبادة » .

وقدم الجارّ الدال على الاختصاص إشارة إلى أنّ هذا النظر مباين للنظر إلى غيره ، فلا يعد ذلك نظراً بالنسبة إليه وعبر بالوجوه عن أصحابها ؛ لأنها أدل ما يكون على السرور ، وليكون ذكرها أصرح في أنّ المراد بالنظر حقيقته .

روى مسلم في قوله تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] كان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم تلا هذه الآية .

وأنكر الرؤية المعتزلة ، واحتجوا بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ويقولون : النظر المقرون بإلى ليس اسماً للرؤية بل لمقدّمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئيّ التماساً لرؤيته ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } [ الأعراف : 198 ] فأثبت النظر حال عدم الرؤية ، فتكون الرؤية غاية النظر وأنّ النظر يحصل والرؤية غير حاصلة . قالوا : ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى : { ناظرة } منتظرة كقولك أنا أنظر إليك في حاجتي .

وأجيب عن استدلالهم بقوله تعالى : { لا تدركه الأبصار } بأن لا تدركه بالإحاطة والجهة فلا يكون ذلك مانعاً للرؤية على هذا الوجه وعن بقية استدلالهم بما ذكروه بجوابين :

أحدهما : أن نقول : النظر هو الرؤية لقول موسى عليه السلام { أرني أنظر إليك } [ الأعراف : 143 ] فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان ، ولأنه أخر النظر عن الإراءة فلا يكون تقليب الحدقة .

الجواب الثاني : سلمنا ما ذكرتموه من أنّ النظر تقليب الحدقة تعذر حمله على الحقيقة فيجب حمله على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة ؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ، ولا تعلق بينه وبين الانتظار .

وأمّا قولهم بحمله على الانتظار فأجيب عنه أيضاً بأن الذي هو بمعنى الانتظار في القرآن غير مقرون بإلى ، كقوله تعالى : { انظرونا نقتبس من نوركم } [ الحديد : 13 ] والذي ندعيه أن النظر المقرون بإلى ليس إلا بمعنى الرؤية ؛ لأنّ وروده بمعنى الرؤية ظاهرة فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك .