المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

وقوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } جملة هي في موضع خبر بعد خبر ، وقال بعض النحويين : { ناضرة } نعت ل { وجوه } ، و { إلى ربها ناظرة } خبر عن { وجوه } ، فعلى هذا كثر تخصص الوجوه فحسن الابتداء بها . و { ناضرة } معناه ناعمة ، والنضرة النعمة وجمال البشرة ، قال الحسن : وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق ، وقوله تعالى : { إلى ربها ناظرة } حمل هذه الآية أهل السنة على أنها متضمنة رؤية المؤمنين لله تعالى ، وهي رؤية دون محاذاة ولا تكييف ولا تحديد كما هو معلوم ، موجود لا يشبه الموجودات كذلك هو لا يشبه المرئيات في شيء ، فإنه ليس كمثله شيء لا إله إلا هو ، وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «حدثتكم عن الدجال أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور وأنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا »{[11479]} ، وقال صلى الله عليه وسلم : «إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته »{[11480]} ، وقال الحسن : تنظرون إلى الله تعالى بلا إحاطة ، وأما المعتزلة الذين ينفون رؤية الله تعالى ، فذهبوا في هذه الآية إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافاً محذوفاً ، وهذا وجه سائغ في العربية كما تقول ، فلا ناظر إليك في كذا ، أي إلى صنعك في كذا ، والرواية إنما تثبتها بأدلة قاطعة غير هذه الآية ، فإذا ثبتت حسن تأويل أهل السنة في هذه الآية وقوي ، وذهب بعض المعتزلة في هذه الآية إلى أن قوله { إلى } ليست بحرف الجر وإنما هي إلى واحد الآلاء فكأنه قال نعمة ربها منتظرة ، أو { ناظرة } من النظر بالعين ، ويقال نظرتك بمعنى انتظرتك ، ومنه قول الحطيئة : [ البسيط ]

وقد نظرتكم أبناء عائشة*** للخمس طال بها حبسي وتبساسي{[11481]}

والتبساس أن يقال للناقة بس بس لتدر على الحالب ، وفسر أبو عبيدة في غريبه هذا البيت على رواية أخرى وهي : طال بها حوزي وتنساسي بالنون وهو السير الشديد فتأمله .


[11479]:أخرجه البخاري في التوحيد وفي حجة الوداع، ومسلم وابن ماجه في الفتن، وأبو داود في الملاحم، وأحمد في مسنده (2/33، 37 و 5/38)، ولفظه كما في البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره، وقال: ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته، أنذره نوح والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم –ثلاثا- إن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم ...الحديث)، وهو طويل.
[11480]:روى جرير بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم عيانا. كما ترون هذا القمر، لا تضامون رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)، ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب). متفق عليه، وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة أن ناسا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا: لا، قال: إنكم ترون ربكم كذلك، وقد أخرج هذا الحديث أيضا الدارقطني عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد، وعبد بن حميد، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري.
[11481]:اختلفت رواية هذا البيت في كثير من المصادر ، فيروى: "أبناء" بدلا من "إيناء"، و "غاشية" بدلا من "صادرة" ويروى "للورد" بدلا من "للخمس"، ويروى "تنساسي" بالنون بدلا من "تبساسي" بالباء، ويروى "طار" بدلا من طال"، وقد استشهد به صاحب اللسان في كثير من الأماكن، وكذلك أكثر المفسرون من الاستشهاد به، و "نظرتكم" هنا معناها: انتظرتكم، وهذا هو موضع الاستشهاد هنا، والإيناء: الانتظار ، والصادرة، الإبل الراجعة عن الماء، يقول: انتظرتكم كما تنتظر الإبل الصادرة عن الماء التي ترد الخمس ثم تسقى لتصدر، وكان من عادة العرب أن الإبل ترد الماء فتشرب يوم وردها وتصدر في ذلك اليوم أي تبتعد عن الماء، وتظل بعد ذلك في المرعى ثلاثة أيام بعد يوم الصدر، وترد اليوم الرابع وهو في الحقيقة الخامس، فهذا هو الخمس الذي تنتظره الإبل، والحوز: السوق الهاديء، والتنساس: السوق الشديد. وقد قيل: إن الحوز هو السير الشديد، وأن الرواية التبساس ومعناه أن يقول الحالب للإبل: بس بس لتدر اللبن، وبعد هذا البيت يقول الحطيئة: لما بدا لي منكم عيب أنفسكم ولم يكن لجراحي عندكم آسي أزمعت أمرا مريحا من نوالكم ولن ترى طاردا للمرء كالياس هذا وقد قيل: إن تأويل "نظر" بمعنى "انتظر" مدخول ، لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا: نظرته، ولا يقولون: نظرت إليه، ومنه قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة)، و (هل ينظرون إلا تأويله)، (ما ينظرون إلا صيحة واحدة)، فالمعنى فيها: ينتظرون، أما إذا أراد العرب النظر بالعين جاءوا بـ "إلى" وقد ذكرت "إلى" هنا، وذكر معها الوجوه فقيل: (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناضرة)،قال ابن أبي ربيعة: نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عارم وقال امرؤ القيس: نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال فإذا أراد بالنظر الفكر والتأمل قرنوه بحرف الجر "في" فقالوا: نظر في الأمر، بمعنى فكر فيه وتأمل.