لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ} (23)

{ إلى ربها ناظرة } قال ابن عباس وأكثر المفسرين : تنظر إلى ربها عياناً بلا حجاب قال الحسن حق لها أن تنظر وهي تنظر إلى الخالق سبحانه وتعالى ، وروي عن مجاهد وأبي صالح أنهما فسرا النّظر في هذه الآية بالانتظار قال مجاهد تنتظر من ربها ما أمر لها به وقال أبو صالح : تنتظر الثّواب من ربها ، قال الأزهري : ومن قال إن معنى قوله { إلى ربها ناظرة } بمعنى منتظرة فقد أخطأ لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته إنما تقول نظرت فلاناً أي انتظرته ومنه قول الحطيئة :

وقد نظرتكم أعشاء صادرة *** للورد طال بها حوري وتنساسي

فإذا قلت نظرت إليه لم يكن إلا بالعين ، وإذا قلت نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكر فيه وتدبر بالقلب ، وهذا آخر كلامه ويشهد لصحة هذا أن النظر الوارد في التّنزيل بمعنى الانتظار كثير ولم يوصل في موضع بإلى كقوله{ انظرونا نقتبس من نوركم } [ الحديد : 13 ] وقوله { هل ينظرون إلا تأويله } [ الأَعراف : 53 ]{ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله }[ البقرة : 210 ] والوجه إذا وصف بالنظر وعدي بإلى لم يحتمل غير الرؤية ، وأما قوله أنظر إلى الله ثم إليك على معنى أتوقع فضل الله ثم فضلك ، فيكون النّظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب إنما يجوز هذا إذا لم يسند إلى الوجه ، فإذا أسند النظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب ، ولا الانتظار وإذا بطل المعنيان لم يبق لبقاء الرّؤية كلام وإن شق ذلك عليهم ، والأحاديث الصحيحة تعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية وسنذكرها إن شاء الله تعالى .

( فصل : في إثبات رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة )

قال علماء أهل السنة رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة غير مستحيلة عقلاً ، وأجمعوا على وقوعها في الآخرة ، وأن المؤمنين يرون الله سبحانه ، وتعالى دون الكافرين بدليل قوله تعالى :{ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطففين : 15 ] وزعمت طوائف من أهل البدع كالمعتزلة والخوارج ، وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه ، وأن رؤيته مستحيلة عقلاً ، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح ، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى ، وقد رواها نحو من عشرين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن فيها مشهورة ، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبتها مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة ، وكذلك باقي شبههم وأجوبتها مشهورة مستفاضة في كتب الكلام ، وليس هذا موضع ذكرها ، ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله في خلقه ، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك .

وأما الأحاديث الواردة في إثبات الرّؤية فمنها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه ، وأزواجه ، ونعيمه وخدمه ، وسروره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } أخرجه التّرمذي وقال : هذا حديث غريب ، وقال : وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يرفعه ( ق ) عن جرير بن عبد الله قال " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، وقال إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشّمس ، وقبل الغروب " قوله " لا تضامون " روي بفتح التاء وتشديد الميم وقد تضم التاء مع التّشديد أيضاً ومعناه لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا تزدحمون وقت النظر إليه ، وروي بتخفيف الميم ومعناه لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض وقوله : " إنكم ترون ربكم عياناً كما ترون القمر " معناه تشبيه الرّؤية بالرّؤية في الوضوح وزوال الشّك والمشقة لا تشبيه المرئي بالمرئي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه " أن أناساً قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تضارون في القمر ليلة البدر ، قالوا : لا يا رسول الله قال : هل تضارون في الشّمس ليس دونها سحاب ، قالوا : لا يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكم سترونه كذلك " أخرجه أبو داود وأخرجه التّرمذي . وليس عنده في أوله أن أناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قوله ليس دونها سحاب . قال الترمذي وقد روي مثل هذا الحديث عن أبي سعيد وهو صحيح ، وهذا الحديث طرف من حديث طويل قد أخرجه البخاري ومسلم ، ومعنى تضارون وتضامون واحد .

عن أبي رزين العقيلي قال : " قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخلياً به يوم القيامة ؟ قال نعم قلت وما آية ذلك في خلقه ؟ قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخلياً به قلت بلى قال : فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله أجل وأعظم " أخرجه أبو داود ( م ) عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى : تريدون شيئاً أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى " والأحاديث في الباب كثيرة وهذا القدر كاف والله أعلم .