تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة ، فقال : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أي : مهما أمكنكم ، { مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ }

قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ثُمَامة بن شُفَيّ ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " {[13105]}

رواه مسلم ، عن هارون بن معروف ، وأبو داود عن سعيد بن منصور ، وابن ماجة عن يونس بن عبد الأعلى ، ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب ، به{[13106]}

ولهذا الحديث طرق أخر ، عن عقبة بن عامر ، منها ما رواه الترمذي ، من حديث صالح بن كَيْسان ، عن رجل ، عنه{[13107]}

وروى الإمام أحمد وأهل السنن ، عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارموا واركبوا ، وأن ترموا خير من أن تركبوا " {[13108]}

وقال الإمام مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل لثلاثة : لرجل أجْر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ؛ فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج - أو : روضة - فما أصابت في طيلها ذلك من المرج - أو : الروضة - كانت له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقي به ، كان ذلك حسنات له ؛ فهي لذلك الرجل أجر . ورجل ربطها تغنِّيًا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرًا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر " . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : " ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .

رواه البخاري - وهذا لفظه - ومسلم ، كلاهما من حديث مالك{[13109]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، أخبرنا شريك ، عن الرُّكَيْن بن الربيع{[13110]} عن القاسم بن حسان ؛ عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للشيطان ، وفرس للإنسان ، فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه وروثه وبوله ، وذكر ما شاء الله . وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه ، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها ، فهي ستر من فقر " {[13111]}

وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل ، وذهب الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي ، وقول الجمهور أقوى للحديث ، والله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج وهشام{[13112]} قالا حدثنا ليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة : أن معاوية بن حديج{[13113]} مر على أبي ذر ، وهو قائم عند فرس له ، فسأله ما تعالج من فرسك هذا ؟ فقال : إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته ! قال : وما دعاء بهيمة من البهائم ؟ قال : والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر فيقول : اللهم ، أنت خولتني عبدا من عبادك ، وجعلت رزقي بيده ، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده{[13114]}

قال : وحدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الحميد بن جعفر ؛ حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن سُوَيْد بن قيس ؛ عن معاوية بن حديج{[13115]} ؛ عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر ، يدعو بدعوتين ، يقول : اللهم ، إنك خولتني من خولتني من بني آدم ، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه " أو " أحب أهله وماله إليه " .

رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القطَّان ، به{[13116]}

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التّسْتُرِيّ ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني ، عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال لابن الحنظلية - يعني : سهلا - : حدَّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وأهلها معانون عليها ، ومن ربط فرسًا في سبيل الله كانت النفقة عليه ، كالماد يده بالصدقة لا يقبضها " {[13117]}

والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة ، وفي صحيح البخاري ، عن عُرْوَة ابن أبي الجعد البارقي{[13118]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم " {[13119]}

وقوله : " ترهبون " أي : تخوفون{ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } أي : من الكفار{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ } قال مجاهد : يعني : قريظة ، وقال السدي : فارس ، وقال سفيان الثوري : قال ابن يمان : هم الشياطين التي في الدور . وقد ورد حديث بمثل ذلك ، قال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحِمْصِي ، حدثنا أبو حيوة - يعني : شريح بن يزيد المقرئ - حدثنا سعيد بن سنان ، عن ابن عريب - يعني : يزيد بن عبد الله بن عريب - عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في قوله : { وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ } قال : " هم الجن " {[13120]}

ورواه الطبراني ، عن إبراهيم بن دُحَيْم ؛ عن أبيه ، عن محمد بن شعيب ؛ عن سعيد بن سنان{[13121]} عن يزيد بن عبد الله بن عريب ، به ، وزاد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل " {[13122]}

وهذا الحديث منكر ، لا يصح إسناده ولا متنه .

وقال مقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون .

وهذا أشبه الأقوال ، ويشهد له قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [ التوبة : 101 ] .

وقوله : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ } أي : مهما أنفقتم في الجهاد ، فإنه يوفى إليكم على التمام{[13123]} والكمال ، ولهذا جاء في حديث{[13124]} رواه أبو داود : أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف{[13125]} كما تقدم في قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر ألا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، حتى نزلت : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين . وهذا أيضًا غريب .


[13105]:في م ذكرت جملة "ألا إن القوة الرمي" ثلاث مرات.
[13106]:المسند (4/156) وصحيح مسلم برقم (1917) وسنن أبي داود برقم (2514) وسنن ابن ماجة برقم (13/28).
[13107]:سنن الترمذي برقم (3083) وقال: "صالح بن كيسان لم يدرك عقبة بن عامر، وقد أدرك ابن عمر".
[13108]:المسند (4/144).
[13109]:الموطأ (2/414) ومن طريقه، رواه البخاري في صحيحه برقم (2371) وأما مسلم فرواه من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن أبي صالح به برقم (987).
[13110]:في ك: "الربيع بن الركين".
[13111]:المسند (1/395).
[13112]:في ك، أ: "هاشم".
[13113]:في أ: "خديج".
[13114]:المسند (5/162).
[13115]:في أ: "خديج".
[13116]:المسند (5/170) وسنن النسائي (6/223).
[13117]:المعجم الكبير (6/98).
[13118]:في م: "المبارك".
[13119]:صحيح البخاري برقم (2850).
[13120]:ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده برقم (650) "بغية الباحث" حدثنا داود بن رشيد عن أبي حيوة به.
[13121]:في جميع النسخ: "سنان بن سعيد بن سنان" والتصويب من المعجم الكبير.
[13122]:المعجم الكبير (17/188) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1089): حدثنا ابن أبي عاصم عن دحيم به نحوه.
[13123]:في ك: "إليكم وأنتم لا تظلمون على التمام".
[13124]:في د: "في الحديث الذي".
[13125]:سنن أبي داود برقم (2498) ولفظه: "إن الصلاة والصيام والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف" وقد تقدم نحو هذا اللفظ عند تفسير الآية: 261 من سورة البقرة من حديث عمران بن حصين.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

{ وأعدّوا } أيها المؤمنون { لهم } لناقضي العهد أو الكفار . { ما استطعتم من قوة } من كل ما يتقوى به في الحرب . وعن عقبة بن عامر سمعته عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر " ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا " ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر لأنه أقواه . { ومن رباط الخيل } اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، فعال بمعنى مفعول أو مصدر سمي به يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا ، أو جمع ربيط كفصيل وفصال . وقرئ " ربط الخيل " بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفها على القوة كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة . { تُرهبون به } تخوفون به ، وعن يعقوب { ترهبون } بالتشديد والضمير ل { ما استطعتم } أو للإعداد . { عدو الله وعدوّكم } يعني كفار مكة . { وآخرين من دونهم } من غيرهم من الكفرة . قيل هم اليهود وقيل المنافقون وقيل الفرس . { لا تعلمونهم } لا تعرفونهم بأعيانهم . { الله يعلمهم } يعرفهم . { وما تُنفقوا من شيء في سبيل الله يُوفّ إليكم } جزاؤه . { وأنتم لا تُظلمون } بتضييع العمل أو نقص الثواب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين ، والضمير في قوله { لهم } عائد على الذين ينبذ إليهم العهد ، أو على الذين لا يعجزون على تأويل من تأول ذلك في الدنيا ، ويحتمل أن يعيده على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت ثم استمرت الآية في الأمة عامة ، إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار وقال عكرمة مولى ابن عباس : «القوة » ذكور الخيل و «الرباط » إناثها ، وهذا قول ضعيف ، وقالت فرقة : القوة الرمي واحتجت بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي{[5433]} » ثلاثاً ، وقال السدي : القوة السلاح ، وذهب الطبري إلى عموم اللفظة ، وذكر عن مجاهد أنه رئي يتجهز وعنده جوالق{[5434]} فقال : هذا من القوة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، و { الخيل } والمركوب في الجملة والمحمول عليه من الحيوان والسلاح كله والملابس الباهتة والآلات والنفقات كلها داخلة في القوة ، وأمر المسلمون بإعداد ما استطاعوا من ذلك ، ولما كانت الخيل هي أصل الحروب وأوزارها والتي عقد الخير في نواصيها وهي أقوى القوة وحصون الفرسان خصها الله بالذكر تشريفاً على قوله { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل }{[5435]} وعلى نحو قوله { فاكهة ونخل ورمان }{[5436]} وهذا كثير ، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً »{[5437]} هذا في البخاري وغيره ، وقال في صحيح مسلم «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً » ، فذكرت التراب على جهة التحفي به إذ هو أعظم أجزاء الأرض مع دخوله في عموم الحديث الآخر ، ولما كانت السهام من أنجع ما ُيتعاطى في الحرب ، وأنكاه في العدو ، وأقربه تناولاً للأرواح ، خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر والتنبيه عليها ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد الثلاثة من المسلمين الجنة ، صانعة والذي يحتسب في صنعته والذي يرمي به »{[5438]} ، وقال عمرو بن عنبة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من رمى بسهم في سبيل الله أصاب العدو أو أخطأ فهو كعتق رقبة »{[5439]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ارموا واركبوا ، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا »{[5440]} و { رباط الخيل } جمع ربط ككلب وكلاب ، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ، ويجوز أن يكون الرباط مصدراً من ربط كصاح صياحاً ونحوه لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس{[5441]} ، وإن جعلناه مصدراً من رابط فكأن ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر له فترابط المؤمنون بعضهم بعضاً ، فإذا ربط كل واحد منهم فرساً لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط ، وذلك الذي حض في الآية عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :

«من ارتبط فرساً في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها »{[5442]} ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «من رُبُط » بضم الراء والباء وهو جمع رباط ككتاب وكُتُب ، كذا نصبه المفسرون وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر{[5443]} .

و{ ترهبون } معناه تفزعون وتخوفون ، والرهبة الخوف ، قال طفيل الغنوي : [ البسيط ]

ويلُ أم حيّ دفعتم في نحورهمُ*** بني كلاب غداة الرعب والرهب{[5444]}

ومنه راهب النصارى ، يقال رهب إذا خاف ، ف { ترهبون } معدى بالهمزة ، وقرأ الحسن ويعقوب «تُرَهّبون » بفتح الراء وشد الهاء معدى بالتضعيف ، ورويت عن أبي عمرو بن العلاء قال أبو حاتم : وزعم عمرو أن الحسن قرأ «يرهبون » بالياء من تحت وخففها ، فهو على هذا المعدى بالتضعيف ، وقرأ ابن عباس وعكرمة «تخزون به عدو الله » .

قال القاضي أبو محمد : ذكرها الطبري تفسيراً لا قراءة ، وأثبتها أبو عمرو الداني قراءة ، وقوله { عدو الله وعدوكم } ذكر الصفتين وإن كانت{[5445]} متقاربة إذ هي متغايرة المنحى ، وبذكرهما يتقوى الذم وتتضح وجوه بغضنا لهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «عدواً لله » بتنوين عدو وبلام في المكتوبة{[5446]} ، والمراد بهاتين الصفتين من قرب وصاقب{[5447]} من الكفار وكانت عداوته متحركة بعد ، ويجوز أن يراد بها جميع الكفار ويبين هذا من اختلافهم في قوله { وآخرين من دونهم } الآية ، قال مجاهد الإشارة بقوله { وآخرين } إلى قريظة ، وقال السدي : إلى أهل فارس ، وقال ابن زيد : الإشارة إلى المنافقين ، وقالت فرقة : الإشارة إلى الجن ، وقالت فرقة : هم كل عدو للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرد بهم من خلفهم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الخلاف إنما ينبغي أن يترتب على ما يتوجه من المعنى في قوله { لا تعلمونهم } فإذا حملنا قوله { لا تعلمونهم } على عمومه ونفينا علم المؤمنين بهذه الفرقة المشار إليها جملة واحدة كان العلم بمعنى المعرفة لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد لم يثبت من الخلاف في قوله { آخرين } إلا قول من قال الإشارة إلى المنافقين وقول من قال : الإشارة إلى الجن ، وإذا جعلنا قوله { لا تعلمونهم } محاربين أو نحو هذا مما تفيد به نفي العلم عنهم حسنت الأقوال ، وكان العلم متعدياً إلى مفعولين .

قال القاضي أبو محمد : هذا الوجه أشبه عندي ، ورجح الطبري أن الإشارة إلى الجن وأسند في ذلك ما روي من أن صهيل الخيل ينفر الجن وأن الشيطان لا يدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وفيه على احتماله نظر ، وكان الأهم في هذه الآيات أن يبزر معناها في كل ما يقوي المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين على عدوهم من الإنس وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر ورهبتهم من المسلمين هي النافعة للإسلام وأهله ورهبة الجن وفزعهم لا غناء له في ظهور الإسلام ، بل هو تابع لظهور الإسلام وهو أجنبي جداً والأولى أن يتأول المسلمين إذا ظهروا وعزوا هابهم من جاورهم من العدو المحارب لهم ، فإذا اتصلت حالهم تلك بمن بعد من الكفار داخلته الهيبة وإن لم يقصد المسلمون إرهابهم فأولئك هم الآخرون{[5448]} ، ويحسن أن يقدر قوله { لا تعلمونهم } بمعنى لا تعلمونهم فازعين راهبين ولا تظنون ذلك بهم ، والله تعالى يعلمهم بتلك الحالة ، ويحسن أيضاً أن تكون الإشارة إلى المنافقين على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كل من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية ، ولفزعهم ورهبتهم غناء كثير في ظهور الإسلام وعلوه ، وقوله { من دونهم } بمنزلة قولك دون أن يكون هؤلاء ف «دون » في كلام العرب و «من دون » يقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي هي فيها القول ، ومنه المثل : " وأمر دون عبيدة الوذم " {[5449]} تفضل تعالى بعدة المؤمنين على إنفاقهم في سبيل الله بأن النفقة لا بد أن توفى أي تجازى ويثاب عليها ، ولزوم هذا هو في الآخرة ، وقد يمكن أن يجازي الله تعالى بعض المؤمنين في الدنيا مجازاة مضافة إلى مجازاة الآخرة .


[5433]:- أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم القراب في كتاب فضل الرمي، والبيهقي في شعب الإيمان. (الدر المنثور).
[5434]:- الجوالق بضم الجيم وبسكرها: الغرارة. (المعجم الوسيط).
[5435]:- من الآية (98) من سورة (البقرة).
[5436]:-من الآية (68) من سورة (الرحمن).
[5437]:- رواه ابن ماجة عن أبي هريرة، وأبو داود عن أبي ذر، هكذا قال السيوطي في "الجامع الصغير" ورمز له بالضعف.
[5438]:- لفظه كما أثبته في "الجامع الصغير" هو: (إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله). وقال إن الإمام أحمد رواه في مسنده، وكذلك رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. ثم رمز له السيوطي بالضعف.
[5439]:-رواه في "الجامع الصغير" بلفظ: (من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر) ثم رمز إلى أن رواته هم الترمذي، والنسائي، والحاكم في مستدركه- عن أبي نجيح. ورمز له بعد ذلك بأنه صحيح.
[5440]:-هذا جزء من حديث رمز له الإمام السيوطي في "الجامع الصغير" بأنه حديث حسن، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان- عن عقبة بن عامر- والحديث بتمامه هو: (ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته، فإنهن من الحق، ومن ترك الرمي بعدما علمه فقد كفر الذي علمه).
[5441]:- قال أبو حيان في "البحر المحيط" تعليقا على ذلك: "ليس بصحيح، بل لها مصادر منقاسة ذكرها النحويون".
[5442]:- هذا جزء من حديث طويل رواه الدارمي في (اللباس)، ورواه الإمام أحمد في مسنده عن سهل بن الحنظلية، قال الراوي عن سهل وكان جليسا لأبي الدرداء: كان بدمشق رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: ابن الحنظلية...إلى أن قال: ثم مرّ بنا يوما آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك: قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المتفق على الخيل في سبيل الله كباسط يديه بالصدقة لا يقبضها).
[5443]:-عقب أبو حيان في "البحر" على ذلك بقوله: "ولا يتعين كونه مصدرا، ألا ترى إلى قول أبي زيد: إنه من الخيل الخمس فما فوقها".
[5444]:-هذا البيت واحد من ثلاثة أبيات قالها طفيل الغنوي يمدح بها بني جعفر بن كلاب، وهو يصفهم بالشجاعة وبأن من عاداهم فلأمه الويل والثكل. ويُروى: "لله قوم دفعتم في جنوبهم"، وأشار محقق الديوان إلى أن هذه الرواية الثانية في النقائض، وقال محقق تفسير الطبري: "ورأيناها ثمة"- والويل هو الهلاك والعذاب.
[5445]:- يريد: وإن كانت الصفات متقاربة فإنها متغايرة في المعنى، وظاهر اللفظ يقتضي التثنية ولكنا وجدنا النص هكذا في الأصول.
[5446]:- المكتوبة هي لفظ الجلالة.
[5447]:- صاقبه صقابا ومصاقبة: قاربه وواجهه، يقال: جار مصاقب.
[5448]:- قال القرطبي بعد نقل هذه الآراء: "ولا ينبغي أن يقال فيهم شيء، لأن الله سبحانه قال: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} فكيف يدعي أحد علما بهم، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك".
[5449]:- تقدمت الإشارة إلى هذا المثل عند تفسير قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} الآية (28) من سورة (آل عمران). وأمرّ: أحكم، والوذم: سير تشدّ به أذن الدلو، وجمعه أوذم وأوذام. ويضرب هذا المثل لمن يحكم الأمر دونه. (مجمع الأمثال للميداني 2/285)