{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ } أي : يوم يرون هذه الأحوال والأهوال ، يستجيبون مسارعين إلى الداعي ، حيثما أمروا بادروا إليه ، ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم ، ولكن حيث{[19499]} لا ينفعهم ، كما قال تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] ، وقال : { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [ القمر : 8 ] .
قال محمد بن كعب القُرَظِي : يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة ، وتطوي{[19500]} السماء ، وتتناثر{[19501]} النجوم ، وتذهب{[19502]} الشمس والقمر ، وينادي مناد ، فيتبع الناس الصوت [ فيأتونه ]{[19503]} فذلك قوله : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ } .
وقال قتادة : { لا عِوَجَ لَهُ } لا يميلون عنه .
وقال أبو صالح : { لا عِوَجَ لَهُ } لا عوج عنه .
وقوله : { وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } : قال ابن عباس : سكنت : وكذا قال السدي .
{ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يعني : وطء الأقدام . وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } : الصوت الخفي . وهو رواية عن عكرمة ، والضحاك .
وقال سعيد بن جبير : { فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } : الحديث ، وسره ، ووطء الأقدام . فقد جمع سعيد كلا القولين وهو محتمل ، أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر ، وهو مشيهم في سكون وخضوع . وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال ، فقد قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرّحْمََنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً } .
يقول تعالى ذكره : يومئذٍ يتبع الناس صوت داعي الله الذي يدعوهم إلى موقف القيامة ، فيحشرهم إليه لا عِوَجَ لَهُ يقول : لا عوج لهم عنه ولا انحراف ، ولكنهم سراعا إليه ينحشرون . وقيل : لا عوج له ، والمعنى : لا عوج لهم عنه ، لأن معنى الكلام ما ذكرنا من أنه لا يعوجون له ولا عنه . ولكنهم يؤمونه ويأتونه ، كما يقال في الكلام : دعاني فلان دعوة لا عوج لي عنها : أي لا أعوج عنها . وقوله " وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ للرّحْمَنِ " يقول تعالى ذكره : وسكنت أصوات الخلائق للرحمن فوصف الأصوات بالخشوع . والمعنى لأهلها إنهم خُضّع جميعهم لربهم ، فلا تسمع لناطق منهم منطقا إلاّ من أذن له الرحمن ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ للرّحْمَنِ " يقول : سكنت .
وقوله : " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " يقول : إنه وطء الأقدام إلى المحشر . وأصله : الصوت الخفيّ ، يقال همس فلان إلى فلان بحديثه إذا أسرّه إليه وأخفاه ومنه قول الراجز :
وَهُنّ يَمْشِينَ بنا هَمِيسَا *** إنْ يَصْدُقِ الطّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
يعني بالهمس : صوت أخفاف الإبل في سيرها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عليّ بن عابس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " قال : وطء الأقدام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ للرّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " يعني : همس الأقدام ، وهو الوطء .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " يقول : الصوت الخفيّ .
حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : أخبرنا شريك ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عكرمة " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " قال : وطء الأقدام .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " قال : همس الأقدام .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قادة فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا قال قتادة : كان الحسن يقول : وقع أقدام القوم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " قال : تهافتا ، وقال : تخافت الكلام .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هَمْسا قال : خفض الصوت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : خفض الصوت ، قال : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كلام الإنسان لا تسمع تحرّك شفتيه ولسانه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله : " فَلا تَسْمَعُ إلاّ هَمْسا " يقول : لا تسمع إلاّ مشيا ، قال : المشي الهمس : وطء الأقدام .
جملة { يتبعون الدّاعي } في معنى المفرعة على جملة { يَنسِفُهَا } [ طه : 105 ] . و { يَوْمَئِذٍ } ظرف متعلق ب { يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } . وقدم الظرف على عامله للاهتمام بذلك اليوم ، وليكون تقديمه قائماً مقام العَطف في الوصل ، أي يتبعون الداعي يوم ينسف ربّك الجبال ، أي إذا نسفت الجبال نودوا للحشر فحضروا يتبعون الداعي لذلك .
والداعي ، قيل : هو المَلك إسرافيل عليه السلام يدعو بنداء التسخير والتكوين ، فتعود الأجساد والأرواح فيها وتهطع إلى المكان المدعوّ إليه . وقيل : الداعي الرسول ، أي يتبع كلّ قوم رسولهم .
و { عِوَجَ لَهُ } حال من { الدَّاعِيَ } . واللام على كلا القولين في المراد من الداعي للأجْل ، أي لا عوج لأجل الداعي ، أي لا يروغ المدعوون في سيرهم لأجل الداعي بل يقصدون متجهين إلى صَوبه . ويجيء على قول من جعل المراد بالداعي الرسول أن يرَاد بالعوج الباطل تعريضاً بالمشركين الذين نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم العِوج كقولهم { إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً } [ الفرقان : 8 ] ، ونحو ذلك من أكاذيبهم ، كما عُرض بهم في قوله تعالى : { الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً } [ الكهف : 1 ] .
فالمصدر المنفي أريد منه نفي جنس العوج في اتباع الداعي ، بحيث لا يسلكون غير الطريق القويم ، أو لا يسلك بهم غير الطريق القويم ، أو بحيث يعلمون براءة رسولهم من العِوج .
وبيْن قوله { لا ترى فيها عوجاً } [ طه : 107 ] وقوله { لا عِوَج له } مراعاة النظير ، فكما جعل الله الأرض يومئذ غير معوجة ولا ناتئة كما قال { فإذا هم بالساهرة } [ النازعات : 14 ] كذلك جعل سير النّاس عليها لا عوج فيه ولا مراوغة .
والخشوع : الخضوع ، وفي كلّ شيء من الإنسان مظهر من الخشوع ؛ فمظهر الخشوع في الصوت : الإسرار به ، فلذلك فرع عليه قوله { فلا تسمع إلاّ همساً } .
والخطاب بقوله { لا ترى فيها عوجاً } وقوله { فلا تسمع إلا همساً } خطاب لغير معين ، أي لا يرى الرائي ولا يسمع السامع .
وجملة { وخَشَعَتِ الأصوَاتُ } في موضع الحال من ضمير { يتّبعون وإسناد الخشوع إلى الأصوات مجاز عقلي ، فإن الخشوع لأصحاب الأصوات ؛ أو استعير الخشوع لانخفاض الصوت وإسراره ، وهذا الخشوع من هول المقام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.