تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ} (44)

{ فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } هذه الآية فيها عبرة عظيمة ، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار ، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين ، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } : يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه ؟

وقال وهب بن مُنَبه : قولا له : إني إلى العفو والمغفرة أقربُ مني إلى الغضب والعقوبة .

وعن عكرمة في قوله : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } قال : لا إله إلا الله ، وقال{[19369]} عمرو بن عبيد ، عن الحسن البصري : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } أعْذرا إليه ، قولا له : إن لك ربًا ولك معادًا ، وإن بين يديك جنة ونارا .

وقال بقيَّة ، عن علي بن هارون ، عن رجل ، عن الضحاك بن مُزَاحم ، عن النزال بن سَبْرَة ، عن علي في قوله : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } قال : كَنِّه .

وكذا روي عن سفيان الثوري : كَنّه بأبي مُرَّة .

والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل ، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع ، كما قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } الآية [ النحل : 125 ] .

[ قوله ]{[19370]} { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } أي : لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة ، { أَوْ يَخْشَى } أي : يُوجد طاعة من خشية ربه ، كما قال تعالى :

{ لمن أراد أن يذكر أو يخشى }{[19371]} فالتذكر : الرجوع عن المحذور ، والخشية : تحصيل الطاعة .

وقال الحسن البصري [ في قوله ]{[19372]} { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } يقول : لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون : أهْلكْه قبل أن أعذر{[19373]} إليه .

وهاهنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل ، ويروى لأمَيّة بن أبي الصَّلْت فيما ذكره ابن إسحاق :

وأنت الذي من فضل مَنٍّ ورحمة *** بعثت إلى موسى رسولا مناديا

فقلت له يا اذهب وهارون فادعُوَا *** إلى الله فرعون الذي كان باغيا

فقولا له هل أنت سوّيت هذه *** بلا وتد حتى استقلت كما هيا

وقولا له آأنت رَفَّعت هذه *** بلا عمد? أرفق إذن بك بانيا

وقولا له آأنت سويت وسطها *** منيرًا إذا ما جَنَّه الليل هاديا

وقولا له من يخرج الشمس بكرةً *** فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا

وقولا له من ينبت الحب في الثرى *** فيصبح منه البقل يهتز رابيا

ويخرج منه حبه في رءوسه{[19374]} *** ففي ذاك آيات لمن كان واعيا{[19375]} .


[19369]:في أ: "وعن".
[19370]:زيادة من ف، وفي أ: "وقوله".
[19371]:هكذا في كل النسخ، وليست آية.
[19372]:زيادة من أ.
[19373]:في ف: "تعذرا"، وفي أ: "يعذر".
[19374]:في أ: "دويبة".
[19375]:السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ} (44)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَىَ * قَالاَ رَبّنَآ إِنّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىَ } .

يقول تعالى ذكره لموسى وهارون : فقولا لفرعون قولاً ليّنا . ذُكر أن القول اللين الذي أمرهما الله أن يقولاه له ، هو أن يكنياه .

حدثني جعفر ابن ابنة إسحاق بن يوسف الأزرق ، قال : حدثنا سعيد بن محمد الثقفي ، قال : حدثنا عليّ بن صالح ، عن السديّ : " فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيّنا " قال : كنياه .

وقوله : " لَعَلّهُ يَتَذَكّرُ أوْ يَخْشَى " اختلف في معنى قوله : لَعَلّهُ في هذا الموضع ، فقال بعضهم معناها ههنا الاستفهام ، كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى : فقولا له قولا لينا ، فانظرا هل يتذكر ويراجع أو يخشى الله فيرتدع عن طغيانه . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " لَعَلّهُ يَتَذَكّرُ أوْ يَخْشَى " يقول : هل يتذكر أو يخشى .

وقال آخرون : معنى لعلّ ههنا كي . ووجّهوا معنى الكلام إلى اذهبَا إلى فِرْعَوْنَ إنّهُ طَغَى فادعواه وعظاه ليتذكر أو يخشى ، كما يقول القائل : اعمل عملك لعلك تأخذ أجرك ، بمعنى : لتأخذ أجرك ، وافرغ من عملك لعلنا نتغدّى ، بمعنى : لنتغدى ، أو حتى نتغدى ، ولكلا هذين القولين وجه حسن ، ومذهب صحيح .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ} (44)

القول الليّنُ : الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال ، بأن يظهر المتكلّم للمخاطب أنّ له من سداد الرأي ما يتقبّل به الحق ويميّز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله .

فشبه الكلام المشتمل على المعاني الحسنة بالشيء الليّنِ .

واللين ، حقيقة من صفات الأجسام ، وهو : رطوبة ملمس الجسم وسهولة ليّه ، وضد الليّن الخشونة . ويستعار الليّن لسهولة المعاملة والصفح . وقال عمرو بن كلثوم :

فإن قناتنا يا عَمْرو أعيَت *** على الأعداءِ قبلَكَ أن تلينا

واللين من شعار الدعوة إلى الحق ، قال تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] وقال : { فبما رحمة من الله لِنتَ لهم } [ آل عمران : 159 ] . ومن اللين في دعوة موسى لفرعون قوله تعالى : { فقل هل لك إلى أن تَزّكّى وأهديَك إلى ربك فتخشى } [ النازعات : 18 ، 19 ] وقوله : { والسلام على من اتبّع الهدى } [ الكهف : 47 ] ، إذ المقصود من دعوة الرسل حصول الاهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى .

فإذا لم ينفع اللين مع المدعوّ وأعرض واستكبر جاز في موعظته الإغلاظ معه ، قال تعالى : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم } [ العنكبوت : 46 ] ، وقال تعالى عن موسى : { إنّا قد أوحي إلينا أن العَذاب على من كذّب وتولّى } [ طه : 48 ] .

والتّرجي المستفاد من ( لعلّ ) إما تمثيل لشأن الله في دعوة فرعون بشأن الراجي ، وإما أن يكون إعلاماً لموسى وفرعون بأن يرجوَا ذلك ، فكان النطق بحرف الترجي على لسانهما ، كما تقول للشخص إذا أشرت عليه بشيء : فلعلّه يصادفك تيْسير ، وأنت لا تريد أنّك ترجو ذلك ولكن بطلب رجاء من المخاطب . وقد تقدمت نظائره في القرآن غير مرّة .

والتذكّر : من الذُّكر بضم الذال أي النظر ، أي لعلّه ينظر نظر المتبصّر فيعرف الحق أو يخشى حلولَ العقاب به فيُطيع عن خشية لا عن تبصر . وكان فرعون من أهل الطغيان واعتقاد أنه على الحق ، فالتذكر : أن يعرف أنه على الباطل ، والخشيةُ : أن يتردد في ذلك فيخشى أن يكون على الباطل فيحتاط لنفسه بالأخذ بما دعاه إليه موسى .

وهنا انتهى تكليم الله تعالى موسى عليه السلام .