مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ} (44)

أما قوله تعالى : { فقولا له قولا لينا } ففيه سؤالان :

السؤال الأول : لم أمر الله تعالى موسى عليه السلام باللين مع الكافر الجاحد . الجواب لوجهين : الأول : أنه عليه السلام كان قد رباه فرعون فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق وهذا تنبيه على نهاية تعظيم حق الأبوين . الثاني : أن من عادة الجبابرة إذا غلظ لهم في الوعظ أن يزدادوا عتوا وتكبرا ، والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر فلهذا أمر الله تعالى بالرفق .

السؤال الثاني : كيف كان ذلك الكلام اللين . الجواب : ذكروا فيه وجوها . أحدها : ما حكى الله تعالى بعضه فقال : { هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى } وذكر أيضا في هذه السورة بعض ذلك فقال : { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك } إلى قوله : { والسلام على من اتبع الهدى } . وثانيها : أن تعداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته . وثالثها : كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة . ورابعها : حكي عن عمرو بن دينار قال : بلغني أن فرعون عمر أربعمائة سنة وتسع سنين فقال له موسى عليه السلام : إن أطعتني عمرت مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة واعترضوا على هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة . أما الأول : فقيل لو حصلت له هذه الأمور الثلاثة في هذه المدة الطويلة لصار ذلك كالإلجاء إلى معرفة الله تعالى وذلك لا يصح مع التكليف . وأما الثاني : فلأن خطابه بالكنية أمر سهل فلا يجوز أن يجعل ذلك هو المقصود من قوله : { فقولا له قولا لينا } بل يجوز أن يكون ذلك من جملة المراد . وأما الثالث : فالاعتراض عليه كما في الأول أما قوله تعالى : { لعله يتذكر أو يخشى } فاعلم أنه ليس المراد أنه تعالى كان شاكا في ذلك لأن ذلك محال عليه تعالى وإنما المراد : فقولا له قولا لينا ، على أن تكونا راجيين لأن يتذكر هو أو يخشى . واعلم أن أحوال القلب ثلاثة . أحدها : الإصرار على الحق . وثانيها : الإصرار على الباطل . وثالثها : التوقف في الأمرين ، وأن فرعون كان مصرا على الباطل وهذا القسم أردأ الأقسام فقال تعالى : { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } فيرجع من إنكاره إلى الإقرار بالحق وإن لم ينتقل من الإنكار إلى الإقرار لكنه يحصل في قلبه الخوف فيترك الإنكار وإن كان لا ينتقل إلى الإقرار فإن هذا خير من الإصرار على الإنكار واعلم أن هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى لأنه تعالى لما علم أنه لا يؤمن قط كان إيمانه ضدا لذلك العلم الذي يمتنع زواله فيكون سبحانه عالما بامتناع ذلك الإيمان وإذا كان عالما بذلك فكيف أمر موسى عليه السلام بذلك الرفق وكيف بالغ في ذلك الأمر بتلطيف دعوته إلى الله تعالى مع علمه استحالة حصول ذلك منه ؟ ثم هب أن المعتزلة ينازعون في هذا الامتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في هذا السؤال ولكنهم سلموا أنه كان عالما بأنه لا يحصل ذلك الإيمان وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى عليه السلام إلا استحقاق العقاب والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكينا إلى من علم قطعا أنه يمزق بها بطن نفسه ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان إليه ؟ يا أخي العقول قاصرة عن معرفة هذه الأسرار ولا سبيل فيها إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان ، ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة : فقولا له قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن .