اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ} (44)

قوله : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } قرأ أبو معاذ{[24478]} " قَوْلاً لَيْناً " وهو تخفيف من لَيِّن كَمَيْت في ميِّت{[24479]} .

وقوله : " لَعَلَّهُ " فيه أوجه :

أحدها : أن " لَعَلَّ " على بابها للترجي ، وذلك بالنسبة إلى المرسل وهو موسى وهارون ، أي اذهبا على رجائكما وطمعكما في إيمانه أي{[24480]} اذهبا مترجَيْن طامعَيْن ، وهذا معنى قول الزمخشري{[24481]} ولا يستقيم أن يرد ذلك في حق الله{[24482]} تعالى ، إذ هو{[24483]} عالم بعواقب الأمور . وعن سيبويه : كل ما ورد في القرآن من ( لَعَلَّ ، وَعَسَى ) فهو من عند الله واجب . يعني أنه يستحيل بقاء{[24484]} معناه في حق الله تعالى .

والثاني : أنَّ " لَعَلَّ " بمعنى ( كَيْ ) فتفيد العلية ، وهذا قول الفراء قال : كما تقول : اعْمَلْ لَعَلَّكَ تأخذُ أجرَكَ ، أي : كي تأخذَ{[24485]} .

والثالث : أنها استفهامية ، أي : هل يتذكر أو يخشى{[24486]} ؟

وهذا قول ساقط ، وذلك أنه يستحيل الاستفهام في حق الله تعالى كما يستحيل الترجي ، فإذا كان لا بد من التأويل فجَعْلُ اللفظ على مدلوله باقياً أولى من إخراجه عنه .

فإن قيل : لِمَ أمر الله تعالى باللين مع الكافر الجاحد ؟ فالجواب من وجهين :

أحدهما{[24487]} : أنه قد ربَّى موسى -عليه السلام-{[24488]} فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق ، وهاذ تنبيه على نهاية تعظيم حق الأبوين .

والثاني : أنَّ من عادة الجبابرة إذا غُلِّظ{[24489]} لهم{[24490]} في الوعظ{[24491]} أن يزدادوا عتواً وتكبُّراً .

والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر ، فلهذا أمر الله تعالى بالرفق{[24492]} .

قوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } أي يتعظ ويخاف .

فصل

اختلفوا في ذلك القول اللين{[24493]} ، فقال ابن عباس : لا تعنِّفا في قولكما{[24494]} .

وقال السُّدِّي وعكرمة : كَنَّياه ، فقولا : يا أبا العباس . وقيل : يا أبا الوليد{[24495]} .

وقال مقاتل : القول الليِّن : { هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى{[24496]} }{[24497]} ، وقولهما{[24498]} : { فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ }{[24499]} إلى قوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى }{[24500]} .

وقال السدي{[24501]} : القول اللِّين أن موسى أتاه ووعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم ، ومُلْكاً لا ينزعُ منه إلا بالموت ، وتبقى عليه لذة المطعم{[24502]} ، والمشرب ، والمنكح إلى حين موته ، وإذا مات دخل الجنة . فأعجبه{[24503]} ذلك ، وكان لا يقطع أمراً دون هامان ، وكان غائباً ، فلما قَدِم أخبره بالذي{[24504]} دعاه إليه موسى ، قال : أردتُ أنْ أقبل مِنْه . فقال له هامان : كنت أرى عقلاً ورأياً ، أنت ربٌّ تريد أن تكون مربوباً ، وأنت تُعْبَدُ تريدُ{[24505]} أن تَعْبُدَ ، فقلبه عن رأيه{[24506]} .

فصل

قال ابن الخطيب : هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى ، لما{[24507]} علم أنه لا يؤمن قط كان{[24508]} إيمانه ضداً لذلك العلم الذي يمتنع زواله ، فيكون سبحانه عالماً بامتناع ذلك الإيمان ، وإذا كان عالماً بذلك ، فكيف أمر موسى بذلك الرفق ، وكيف بالغ في الأمر بتلطف دعوته{[24509]} إلى الله -تعالى- مع علمه باستحالة حصول{[24510]} ذلك منه ؟ ثم هَبْ أن المعتزلة ينازعون{[24511]} في هذا الامتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في{[24512]} هذا السؤال ، ولكنهم سلموا أنه كان عالماً بأن لا يحصل ذلك الإيمان ، وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى -عليه السلام{[24513]}- إلا استحقاق العذاب ، والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكيناً من عَلِمَ قَطعاً أنه يمزق به بطن نفسه{[24514]} ، ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه{[24515]} إلا الإحسان إليه ؟ يا أخي : العقولُ قاصرةٌ عن معرفة هذه الأسرار ، ولا سبيل فيها إلا التسليم ، وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان ، ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب{[24516]} في التوراة " فَقُولاَ لَهُ قََوْلاً لَيِّناً وسَأقْسي قلبَه فلا يؤمن " {[24517]} .


[24478]:هو الفضل بن خالد أبو معاذ النحوي المروزي، روى القراءة عن خارجة بن مصعب، روى عنه القراءة محمد بن هارون النيسابوري ومحمد بن عبد الحكم والليث بن مقاتل بن الليث المرسي مات قريبا من سنة 211 هـ. طبقات القراء 2/9.
[24479]:المختصر (88)، الكشاف 3/434، البحر المحيط 6/246.
[24480]:أي: سقط من ب.
[24481]:أي: أنه يصرف الرجاء للمخاطبين. الكشاف 2/434.
[24482]:في ب: في قوله. وهو تحريف.
[24483]:في ب: لأنه.
[24484]:في الأصل: إبقاء.
[24485]:انظر قول الفراء في البحر المحيط 6/246. وممن أثبت هذا المعنى أيضا الكسائي والأخفش، فقال الأخفش (وقال: "لعله يتذكر" نحو قول الرجل لصاحبه: افرغ لعنا نتغدّى والمعنى: لنتغدّى وحتى نتغدّى. وتقول للرجل: عمل عملك لعلك تأخذ أجرك أي لتأخذه) معاني القرآن 2/631، وانظر المغنى 1/288.
[24486]:أثبته الكوفيون قال ابن هشام : ولهذا علِّق بها الفعل في نحو: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق: 1] ونحو {وما يدريك لعله يزّكّى} [عبس: 3] المغني 1/288 وهذان المعنيان (التعليل والاستفهام) لا يثبتهما البصريون ورجعوا هذه المعاني إلى الترجي والإشفاق انظر شرح التصريح 1/213، والهمع 1/134.
[24487]:في ب: الأول.
[24488]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[24489]:في الأصل: أغلظ.
[24490]:في ب: عليهم.
[24491]:في ب: في اللفظ والوعظ.
[24492]:انظر الفخر الرازي 22/58.
[24493]:قوله: سقط من ب.
[24494]:في ب: واللين. وهو تحريف.
[24495]:انظر البغوي 5/432.
[24496]:المرجع السابق.
[24497]:[النازعات: 18 – 19].
[24498]:البغوي 5/432.
[24499]:في ب: وقوله.
[24500]:[طه: 47].
[24501]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/432 – 433.
[24502]:في ب: الطعم.
[24503]:في ب: وأعجبه.
[24504]:في ب: بالأمر الذي.
[24505]:في ب: وتريد.
[24506]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/432 – 433.
[24507]:لما: سقط من ب.
[24508]:في ب: وكان.
[24509]:في ب: دعواه.
[24510]:في ب: حصوله. وهو تحريف.
[24511]:في ب: تنازعوا. وهو تحريف.
[24512]:في ب: شبه ما وجه. وهو تحريف.
[24513]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[24514]:في ب: حتف أنفه. وهو تحريف.
[24515]:إليه: سقط من ب.
[24516]:في ب: المكتوب. وهو تحريف.
[24517]:الفخر الرازي 22/59.