يقول تعالى ذامًّا الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به - من بر الوالدين ، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربى ، والجار الجُنُب ، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء - ولا يدفعون حق الله فيها ، ويأمرون الناس بالبخل أيضا . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأي داء أَدْوَأ من البخل ؟ " . وقال : " إياكم والشّحَ ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالقطيعةِ فقطعوا ، وأمرهم بالفجور فَفَجَرُوا " {[7491]} .
وقوله : { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فالبخيل جَحُود لنعمة الله عليه لا تظهر عليه ولا تبين ، لا في أكله{[7492]} ولا في ملبسه ، ولا في إعطائه وبذله ، كما قال تعالى : { إِنَّ الإنْسَاَن لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ . وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [ العاديات : 6 ، 7 ] أي : بحاله وشمائله ، { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] وقال هاهنا : { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } ولهذا توعَّدهم بقوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } والكفر هو الستر والتغطية ، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها ، فهو كافر لنعم الله عليه .
وفي الحديث : " إن الله إذا أنعم نعمةً على عبدٍ أحبَّ أن يَظْهَرَ أثرُها عليه " {[7493]} وفي الدعاء النبوي : " واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك قابليها - ويروى : قائليها - وأتممها علينا " {[7494]} .
وقد حمل بعضُ السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم ، من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك ؛ ولهذا قال : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } رواه ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس . وقاله مجاهد وغير واحد .
ولا شك أن الآية محتملة لذلك ، والظاهر أن السياق في البخل بالمال ، وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى ؛ فإن سياق الكلام في الإنفاق على الأقارب والضعفاء ، وكذا الآية التي بعدها ، وهي قوله : { والَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } فَذَكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء ، ثم ذكر الباذلين المرائين الذي يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يُمدَحوا بالكرم ، ولا يريدون بذلك وجه الله ، وفي حديث الذي فيه الثلاثة الذين هم أول من تُسَجَّرُ بهم النار ، وهم : العالم والغازي والمنفق ، والمراءون بأعمالهم ، يقول صاحب المال : ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك . فيقول الله : كذبت ؛ إنما أردت أن يقال : جواد فقد قيل . أي : فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك .
وفي الحديث : أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لِعَدِيّ : " إن أباك رامَ أمرًا فبلغه " .
وفي حديث آخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جُدعان : هل ينفعه إنفاقُه ، وإعتاقُه ؟ فقال : " لا إنه لم يقل يوما من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " .
ولهذا قال : { وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ]{[7495]} } أي : إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيحِ وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطانُ ؛ فإنه سَوَّلَ لهم وأملى لهم ، وقارنهم فحسّن لهم القبائح { وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } ولهذا قال الشاعر{[7496]}
عَن المَرْء لا تَسْأل وسَلْ عن قَرينه *** فكلُّ قرين بالمقارن يَقْتَدي{[7497]}
{ وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وأعتدنا للكافرين بالله من اليهود الذين وصف الله صفتهم عذابا مهينا . { وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النّاسِ } «والذين » في موضع خفض عطفا على «الكافرين » . وقوله : { رِئَاءَ النّاسِ } يعني : ينفقه مراءاة الناس في غير طاعة الله أو غير سبيله ، ولكن في سبيل الشيطان . { وَلا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ } يقول : ولا يصدّقون بواحدنية الله ولا بالميعاد إليه يوم القيامة ، الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن . وقد قال مجاهد : إن هذا من صفة اليهود ، وهو صفة أهل النفاق الذين كانوا أهل شرك فأظهروا الإسلام تقية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به ، وهم على كفرهم مقيمون أشبه منهم بصفة اليهود¹ لأن اليهود كانت توحد الله وتصدّق بالبعث والمعاد ، وإنما كان كفرها تكذيبها بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . وبعد ففي فصل الله بين صفة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر ، وصفة الفريق الاَخر الذين وصفهم في الاَية قبلها ، وأخبر أن لهم عذابا مهينا ، بالواو الفاصلة بينهم ما ينبىء عن أنهما صفتان من نوعين من الناس مختلفي المعاني ، وإن كان جميعهم أهل كفر بالله . ولو كانت الصفتان كلتماهما صفة نوع من الناس لقيل إن شاء الله : وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس . ولكن فصل بينهم بالواو لما وصفنا .
فإن ظنّ ظانّ أن دخول الواو غير مستنكر في عطف صفة على صفة لموصوف واحد في كلام العرب ؟ قيل : ذلك وإن كان كذلك ، فإن الأفصح في كلام العرب إذا أريد ذلك ترك إدخال الواو ، وإذا أريد بالثاني وصف آخر غير الأوّل أدخل الواو . وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأشهر من كلام من نزل بلسانه كتابه أولى بنا من توجيهه إلى الأنكر من كلامهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَكُنِ الشّيْطانُ لَهُ قَرِينا فَساءَ قَرِينا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يكن الشيطان له خليلاً وصاحبا يعمل بطاعته ويتبع أمره ويترك أمر الله في إنفاقه ماله رئاء الناس في غير طاعته ، وجحوده وحدانية الله والبعث بعد الممات¹ { فساءَ قرِينا } يقول : فساء الشيطان قرينا . وإنما نصب القرين ، لأن في «ساء » ذكرا من الشيطان ، كما قال جلّ ثناؤه : { بِئْسَ للظّالِمِينَ بَدَلاً } ، وكذلك تفعل العرب في ساء ونظائرها ، ومنه قول عديّ بن زيد :
عَنِ المَرْءِ لا تَسألْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ***فَكُلّ قَرِينٍ بالمُقارِنِ يَقْتَدِي
عطف { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } على { الذين يبخلون } : لأنّهم أنفقوا إنفاقاً لا تحصل به فائدة الإنفاق غالباً ، لأنّ من ينفق ماله رئاء لا يتوخّى به مواقع الحاجة ، فقد يعطي الغنيّ ويمنع الفقير ، وأريد بهم هنا المنفقون من المنافقين المشركين ، ولذلك وصفوا بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، وقيل : أريد بهم المشركون من أهل مكة ، وهو بعيد ، لأنّ أهل مكة قد انقطع الجدال معهم بعد الهجرة .
وجملة : { ومن يكن الشيطان له قرينا } معترضة .
وقوله : { فساء قريناً } جواب الشرط . والضمير المُستتر في ( ساء ) إن كان عائداً إلى الشيطان ف ( ساءَ ) بمعنى بئس ، والضمير فاعلها ، و { قرينا } تمييز للضمير ، مثل قوله تعالى : { ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا } [ الأعراف : 177 ] ، أي : فساء قرينا له ، ليحصل الربط بين الشرط وجوابه ، ويجوز أن تبقى ( ساء ) على أصلها ضَدّ حَسُن ، وترفع ضميرا عائداً على ( مَن ) ويكون ( قريناً ) تمييز نسبة ، كقولهم : « ساءَ سمعاً فَسَاء جَابَةً » أي فساءَ من كان الشيطان قرينَهُ من جهة القَرين ، والمقصود على كلا الاحتمالين سوء حال من كان الشيطان له قريناً بإثبات سوء قرينه ؛ إذ المرء يعرف بقرينه ، كما قال عديّ بن زيد :
فَكُلّ قرينٍ بالمُقَارن يَقْتَدي
وقوله : { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر } عطف على الجملتين ، وضمير الجمع عائد إلى الفريقين ، والمقصود استنزال طائرهم ، وإقامة الحجّة عليهم .