تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحۡزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ} (33)

يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ } أي : قد أحطنا علما بتكذيب قومك لك ، وحزنك وتأسفك عليهم ، { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] كما قال تعالى في الآية الأخرى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ]{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [ الكهف : 7 ]

وقوله : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي : لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر { وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي : ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم ، كما قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب ، عن علي [ رضي الله عنه ]{[10649]} قال قال : أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب ما جئت به ، فأنزل الله : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }{[10650]}

ورواه الحاكم ، من طريق إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[10651]}

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة ، حدثنا بِشْر بن المُبَشِّر الواسطي ، عن سلام بن مسكين ، عن أبي يزيد المدني ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه ، قال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ ؟ ! فقال : والله إني أعلم{[10652]} إنه لنبي ، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا ؟ ! وتلا أبو يزيد : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }

قال أبو صالح وقتادة : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .

وذكر محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل ، هو وأبو سفيان صَخْر بنِ حَرْب ، والأخْنَس بن شريق ، ولا يشعر واحدٌ منهم بالآخر . فاستمعوها إلى الصباح ، فلما هَجَم الصبح تَفرَّقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال كل منهم للآخر : ما جاء بك ؟ فذكر له ما جاء له{[10653]} ثم تعاهدوا ألا يعودوا ، لما يخافون من علم شباب قريش بهم ، لئلا يفتتنوا{[10654]} بمجيئهم فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظَنًا أن صاحبيه لا يجيئان ، لما تقدم من العهود ، فلما أجمعوا{[10655]} جمعتهم الطريق ، فتلاوموا ، ثم تعاهدوا ألا يعودوا . فلما كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضا ، فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها [ ثم تفرقوا ]{[10656]}

فلما أصبح الأخنس بن شَرِيق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني{[10657]} يا أبا حَنْظَلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به .

ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه في بيته فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ؟ تنازعنا{[10658]} نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تَجاثينا على الرُّكَب ، وكنا كَفَرَسي رِهَان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ! فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه ، قال : فقام عنه الأخنس وتركه{[10659]}

وروى ابن جرير ، من طريق أسباط ، عن السُّدِّي ، في قوله : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شَرِيق لبني زهرة : يا بني زهرة ، إن محمدًا ابن أختكم ، فأنتم أحق من كف{[10660]} عنه . فإنه إن كان نبيًا لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذبًا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم ، فإن غُلِبَ محمد رجعتم سالمين ، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا . فيومئذ سُمِّي الأخنس : وكان اسمه " أبيّ " فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد : أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا . فقال أبو جهل : ويحك ! والله إن محمدًا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهبت بنو قُصيّ باللواء والسقاية والحجاب والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } فآيات الله : محمد صلى الله عليه وسلم .


[10649]:زيادة من أ.
[10650]:رواه الترمذي في السنن برقم (4064) من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان به، وقال الترمذي: "وهذا أصح" والطبري في تفسيره (11/334) من طريق عبد الرحمن بن مهدي - وتابعه يحيى بن آدم - عن سفيان به مرسلا.
[10651]:المستدرك (2/315) وتعقبه الذهبي بقول: ناجية بن كعب لم يخرجا له شيئا.
[10652]:في م، أ "لأعلم".
[10653]:في د، أ: "به".
[10654]:في د، م: "يفتنوا".
[10655]:في د، م: "أصبحوا".
[10656]:زيادة من أ.
[10657]:في م: "أخبروني".
[10658]:في م، أ: "قال تنازعنا".
[10659]:سيرة ابن إسحاق برقم (232) طـ - المغرب.
[10660]:في د: "ذب"
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحۡزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ} (33)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلََكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } . .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قد نعلم يا محمد إنه ليحزنك الذي يقول المشركون ، وذلك قولهم له : إنه كذّاب ، فإنهم لا يكذّبونك .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك بمعنى : أنهم لا يكذّبونك فيما أتيتهم به من وحي الله ، ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحا بل يعلمون صحته ، ولكنهم يجحدون حقيقته قولاً فلا يؤمنون به . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يحكي عن العرب أنهم يقولون : أكذبت الرجل : إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه . قال : ويقولون : كذبته : إذا أخبرت أنه كاذب . وقرأته جماعة من قرّاء المدينة والعراقيين والكوفة والبصرة : فإنّهُمْ لا يُكَذّبونَكَ بمعنى : أنهم لا يكذّبونك علما ، بل يعلمون أنك صادق ، ولكنهم يكذّبونك قولاً ، عنادا وحسدا .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما جماعة من القرّاء ، ولكل واحدة منهما في الصحة مخرج مفهوم . وذلك أن المشركين لا شكّ أنه كان منهم قوم يكذّبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدفعونه عما كان الله تعالى خصه به من النبوّة فكان بعضهم يقول : هو شاعر ، وبعضهم يقول : هو كاهن ، وبعضهم يقول : هو مجنون وينفي جميعهم أن يكون الذي أتاهم به من وحي السماء ومن تنزيل ربّ العالمين قولاً . وكان بعضهم قد تبين أمره وعلم صحة نبوّته ، وهو في ذلك يعاند ويجحد نبوّته حسدا له وبغيا . فالقارىء : «فإنهم لا يُكْذِبُونك » يعني به : أن الذين كانوا يعرفون حقيقة نبوّتك وصدق قولك فيما تقول ، يجحدون أن يكون ما تتلوه عليهم من تنزيل الله ومن عند الله قولاً ، وهم يعلمون أن ذلك من عند الله علما صحيحا مصيبٌ . لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته . وفي قول الله تعالى في هذه السورة : الّذِينَ آتَيْناهُمْ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كمَا يَعْرِفونَ أبْناءَهُمْ أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم العناد في جحود نبوّته صلى الله عليه وسلم ، مع علم منهم به وصحة نبوّته . وكذلك القارىء : «فإنهم لا يُكَذّبُونَكَ » : يعني : أنهم لا يكذّبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عنادا لا جهلاً بنبوّته وصدق لهجته مصيبٌ . لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم مَن هذه صفته . وقد ذهب إلى كلّ واحد من هذين التأويلين جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال : معنى ذلك : فإنهم لا يكذّبونك ، ولكنهم يجحدون الحقّ على علم منهم بأنك نبيّ لله صادق .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : قَدْ نَعْلَمُ إنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ قال : جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزين ، فقال له : ما يحزنك ؟ فقال : «كذّبني هؤلاء » . قال : فقال له جبريل : إنهم لا يكذّبونك هم يعلمون أنك صادق ، وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين ، فقال له : ما يحزنك ؟ فقال : «كذّبني هَؤلاءِ » . فقال له جبريل : إنهم لا يكذّبونك ، إنهم ليعلمون أنك صادق ، وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ قال : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط : عن السديّ ، في قوله : قَدْ نَعْلَمُ إنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فإنّهُمْ لا يُكَذّبونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ لما كان يوم بدر ، قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة ، إن محمدا ابن أختكم ، فأنتم أحقّ من كفّ عنه فإنه إن كان نبيا لم تقاتلونه اليوم ؟ وإن كان كاذبا كنتم أحقّ من كفّ عن ابن أخته ، قفوا ههنا حتى ألقي أبا الحكم ، فإن غلب محمد صلى الله عليه وسلم رجعتم سالمين ، وإن غُلب محمد فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئا فيؤمئذ سمي الأخنس ، وكان اسمه أبيّ . فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس بأبي جهل ، فقال : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا . فقال أبو جهل : ويحك ، والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قطّ ، ولكن إذا ذهب بنوقصيّ باللواء والحجابة والسقاية والنبوّة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله : فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثني الحرث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ قال : ليس يكذّبون محمدا ، وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ .

ذكر من قال ذلك بمعنى : فإنهم لا يكذّبونك ولكنهم يكذّبون ما جئت به :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية ، قال : قال أبو جهل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ما نتهمك ، ولكن نتهم الذي جئت به . فأنزل الله تعالى : فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب : أن أبا جهل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذّبك ، ولكن نكذّب الذي جئت به . فأنزل الله تعالى : فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ .

وقال آخرون : معنى ذلك : فإنهم لا يبطلون ما جئتهم به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب : فإنّهُمْ لا يُكَذّبُونَكَ قال : لا يبطلون ما في يديك .

وأما قوله : وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ فإنه يقول : ولكن المشركين بالله بحجج الله وآي كتابه ورسوله يجحدون ، فينكرون صحة ذلك كله . وكان السديّ يقول : الاَيات في هذا الموضع معنيّ بها محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبل .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحۡزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ} (33)

استئناف ابتدائي قصدت به تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بالصبر ، ووعده بالنصر ، وتأييسه من إيمان المتغالين في الكفر ، ووعده بإيمان فرق منهم بقوله : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى إلى قوله يسمعون } . وقد تهيّأ المقام لهذا الغرض بعد الفراغ من محاجّة المشركين في إبطال شركهم وإبطال إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم والفراغ من وعيدهم وفضيحة مكابرتهم ابتداء من قوله : { وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم } [ الأنعام : 4 ] إلى هنا .

و { قد } تحقيق للخبر الفعلي ، فهو في تحقيق الجملة الفعلية بمنزلة ( إنّ ) في تحقيق الجملة الاسمية . فحرف { قد } مختصّ بالدخول على الأفعال المتصرّفة الخبرية المثبتة المجرّدة من ناصب وجازم وحرف تنفيس ، ومعنى التحقيق ملازم له . والأصحّ أنّه كذلك سواء كان مدخولها ماضياً أو مضارعاً ، ولا يختلف معنى { قد } بالنسبة للفعلين . وقد شاع عند كثير من النحويّين أنّ { قد } إذا دخل على المضارع أفاد تقليل حصول الفعل . وقال بعضهم : إنّه مأخوذ من كلام سيبويه ، ومن ظاهر كلام « الكشاف » في هذه الآية . والتحقيق أنّ كلام سيبويه لا يدلّ إلاّ على أنّ { قد } يستعمل في الدلالة على التقليل لكن بالقرينة وليست بدلالة أصلية . وهذا هو الذي استخلصتُه من كلامهم وهو المعوّل عليه عندي . ولذلك فلا فرق بين دخول { قد } على فعل المضي ودخوله على الفعل المضارع في إفادة تحقيق الحصول ، كما صرّح به الزمخشري في تفسير قوله تعالى : { قد يعلم ما أنتم عليه } في سورة النور ( 64 ) . فالتحقيق يعتبر في الزمن الماضي إن كان الفعل الذي بعد { قد } فعلَ مُضيّ ، وفي زمن الحال أو الاستقبال إن كان الفعل بعد ( قد ) فعلاً مضارعاً مع ما يضمّ إلى التحقيق من دلالة المقام ، مثلِ تقريب زمن الماضي من الحال في نحو : قد قامت الصلاة . وهو كناية تنشأ عن التعرّض لتحقيق فعل ليس من شأنه أن يشكّ السامع في أنّه يقع ، ومثللِ إفادة التكثير مع المضارع تبعاً لما يقتضيه المضارع من الدلالة على التجدّد ، كالبيت الذي نسبه سيبويه للهذلي ، وحقّق ابن بري أنّه لعبيد بن الأبرص ، وهو :

قَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرّا أنَامِلُه *** كأنّ أثْوَابَه مُجَّتْ بِفِرْصَاد

وبيت زهير :

أخا ثقة لا تُهلك الخمرُ مالَه *** ولكنَّه قد يهلك المالَ نائلُه

وإفادة استحضار الصورة ، كقول كعب :

لَقد أقُومُ مَقَاما لو يقوم به *** أرى وأسمعُ ما لو يسمَع الفِيلُ

لَظلّ يُرعَد إلاّ أن يكون له *** من الرسول بإذن الله تَنْويل

أراد تحقيق حضوره لدى الرسول صلى الله عليه وسلم مع استحضار تلك الحالة العجيبة من الوجل المشوب بالرجاء .

والتحقيق أنّ كلام سيبويه بريء ممّا حَمَّلوه ، وما نشأ اضطراب كلام النحاة فيه إلاّ من فهم ابن مالك لكلام سيبويه . وقد ردّه عليه أبو حيّان ردّاً وجيهاً .

فمعنى الآية علمنا بأنّ الذي يقولونه يُحزنك محقّقاً فتصبّر . وقد تقدّم لي كلام في هذه المسألة عند قوله تعالى : { قد نرى تقلّب وجهك في السماء } في سورة البقرة ( 144 ) ، فكان فيه إجمال وأحَلْت على تفسير آية سورة الأنعام ، فهذا الذي استقرّ عليه رأيي .

وفعل نعلم } معلّق عن العمل في مفعولين بوجود اللام .

والمراد ب { الذي يقولون } أقوالهم الدّالة على عدم تصديقهم الرسول صلى الله عليه وسلم كما دلّ عليه قوله بعده { ولقد كُذّبَتْ رسل } [ الأنعام : 34 ] ، فعدل عن ذكر اسم التكذيب ونحوه إلى اسم الموصول وصلته تنزيهاً للرسول عليه الصلاة والسلام عن ذكر هذا اللفظ الشنيع في جانبه تلطّفاً معه .

وقرأ نافع ، وأبو جعفر { لَيُحْزنك } بضم الياء وكسر الزاي . وقرأه الباقون بفتح الياء وضمّ الزاي يُقال : أحزنت الرجل بهمزة تعدية لفعل حَزن ، ويقال : حَزَنْتُه أيضاً . وعن الخليل : أنّ حزنته ، معناه جعلت فيه حُزناً كما يقال : دَهنته . وأمّا التعدية فليست إلاّ بالهمزة . قال أبو علي الفارسي : حَزَنْت الرجل ، أكثر استعمالاً ، وأحزنته ، أقيس . و { الذي يقولون } هو قولهم ساحر ، مجنون ، كاذب ، شاعر . فعدل عن تفصيل قولهم إلى إجماله إيجازاً أو تحاشياً عن التصريح به في جانب المنزّه عنه .

والضمير المجعول اسم ( إنّ ) ضمير الشأن ، واللام لام القسم ، وفعل { يحزنك } فعل القسم ، و { الذي يقولون } فاعله ، واللام في { ليحزنك } لام الابتداء ، وجملة { يحزنك } خبر إنّ ، وضمائر الغيبة راجعة إلى { الذين كفروا } في قوله { ثم الذين كفروا بربِّهم يعدلون } .

والفاء في قوله : { فإنّهم } يجوز أن تكون للتعليل ، والمعلّل محذوف دلّ عليه قوله : { قد نعلم } ، أي فلا تحزنْ فإنّهم لا يُكذبونك ، أي لأنّهم لا يكذبونك . ويجوز كونها للفصيحة ، والتقدير : فإن كان يحزنك ذلك لأجل التكذيب فإنّهم لا يكذبونك ، فالله قد سلّى رسوله عليه الصلاة والسلام بأن أخبره بأنّ المشركين لا يكذبونه ولكنّهم أهل جحود ومكابرة . وكفى بذلك تسلية . ويجوز أن تكون للتفريع على { قد نعلم } ، أي فعلمنا بذلك يتفرّع عليه أنّا نثبّت فؤادك ونشرح صدرك بإعلامك أنّهم لا يكذبونك ، وإن نذكِّرك بسنة الرسل من قبلك ، ونذكّرك بأنّ العاقبة هي نصرك كما سبق في علم الله .

وقرأ نافع ، والكسائي ، وأبو جعفر { لا يكْذبونك } ، بسكون الكاف وتخفيف الذال . وقرأه الجمهور بفتح الكاف وتشديد الذال . وقد قال بعض أئمة اللغة إنّ أكذب وكذّب بمعنى واحد ، أي نسبه إلى الكذب . وقال بعضهم : أكذبه ، وجده كاذباً ، كما يقال : أحمدَه ، وجده محموداً . وأمّا كذّب بالتشديد فهو لنسبة المفعول إلى الكذب . وعن الكسائي : أنّ أكذبه هو بمعنى كَذّب ما جاء به ولم ينْسُب المفعول إلى الكذب ، وأنّ كذّبه هو نسبه إلى الكذب . وهو معنى ما نقل عن الزجّاج معنى كذبتهُ ، قلت له : كذبتَ ، ومعنى أكذبتُه ، أريتُه أنّ ما أتى به كَذب .

وقوله : { ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون } استدراك لدفع أن يتوهّم من قوله : { لا يكذبونك } على قراءة نافع ومن وافقه أنّهم صدّقوا وآمنوا ، وعلى قراءة البقية { لا يكذّبونك } أنّهم لم يصدر منهم أصل التكذيب مع أنّ الواقع خلاف ذلك ، فاستدرك عليه بأنّهم يجحدون بآيات الله فيظهر حالهم كحال من ينسب الآتيَ بالآيات إلى الكذب وما هم بمكذّبين في نفوسهم .

والجحد والجحود ، الإنكار للأمر المعروف ، أي الإنكار مع العلم بوقوع ما ينكر ، فهو نفي ما يَعلم النافي ثبوته ، فهو إنكار مكابرة .

وعُدل عن الإضمار إلى قوله { ولكنّ الظّالمين } ذمّاً لهم وإعلاماً بأنّ شأن الظالم الجحد بالحجّة ، وتسجيلاً عليهم بأنّ الظلم سجيّتهم .

وعدّي { يجحدون } بالباء كما عدّي في قوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النحل : 14 ] لتأكيد تعلّق الجحد بالمجحود ، كالباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ، وفي قوله : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاّ أن كذّب بها الأولون } [ الإسراء : 59 ] ، وقول النابغة :

لك الخير إن وارتْ بك الأرض واحداً *** وأصبح جَدّ الناس يظلع عاثراً

ثم إنّ الجحد بآيات الله أريد به الجحد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات . وجحْدها إنكار أنّها من آيات الله ، أي تكذيب الآتي بها في قوله : إنّها من عند الله ، فآل ذلك إلى أنّهم يكذّبون الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يجمع هذا مع قوله { فإنّهم لا يكذّبونك } على قراءة الجمهور . والذي يستخلص من سياق الآية أنّ المراد فإنّهم لا يعتقدون أنّك كاذب لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام معروف عندهم بالصدق وكان يلقّب بينهم بالأمين . وقد قال النضر بن الحارث لمّا تشاورت قريش في شأن الرسول : « يا معشر قريش قد كان محمد فيكم غلاماً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً حتّى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر وقلتم كاهن وقلتم شاعر وقلتم مجنون ووالله ما هُو بأولئكم » . ولأنّ الآيات التي جاء بها لا يمتري أحد في أنّها من عند الله ، ولأنّ دلائل صدقه بيِّنة واضحة ولكنّكم ظالمون .

والظالم هو الذي يجري على خلاف الحقّ بدون شبهة . فهم ينكرون الحق مع علمهم بأنّه الحق ، وذلك هو الجحود . وقد أخبر الله عنهم بذلك وهو أعلم بسرائرهم . ونظيرها قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلُوّاً } [ النمل : 14 ] فيكون في الآية احتباك . والتقدير : فإنّهم لا يكذّبونك ولا يكذّبون الآيات ولكنّهم يجحدون بالآيات ويجحدون بصدقك ، فحذف من كلَ لدلالة الآخر .

وأخرج الترمذي عن ناجية بن كعب التابعي أنّ أبا جهل قال للنبيء صلى الله عليه وسلم لا نكذّبك ولكن نكذّب ما جئت به . فأنزل الله { فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون } . ولا أحسب هذا هو سبب نزول الآية . لأنّ أبا جهل إن كان قد قال ذلك فقد أراد الاستهزاء ، كما قال ابن العربي في « العارضة » : ذلك أنّه التكذيب بما جاء به تكذيب له لا محالة ، فقوله : لا نكذّبك ، استهزاء بإطماع التصديق .