تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

ثبت في الصحيحين ، من{[20079]} حديث أبي مِجْلَز ، عن قيس بن عُبَاد ، عن أبي ذر ؛ أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } نزلت في حمزة وصاحِبَيه ، وعتبةَ وصاحبيه ، يوم برزوا في بدر{[20080]} .

لفظ البخاري عند تفسيرها ، ثم قال البخاري :

حدثنا الحجاج بن مِنْهَال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مِجْلز عن قيس بن عُبَاد ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يَجثُو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة . قال قيس : وفيهم نزلت : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : عليّ وحمزة وعبيدة ، وشيبة ابن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . انفرد به البخاري{[20081]} .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم . فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله منكم . فأفلج الله الإسلامَ على من ناوأه ، وأنزل : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } . وكذا روى العَوفي ، عن ابن عباس .

وقال شعبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : مُصدق ومكذب .

وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في هذه الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث . وقال - في رواية : هو وعطاء في هذه الآية - : هم المؤمنون والكافرون .

وقال عكرمة : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : هي الجنة والنار ، قالت النار : اجعلني للعقوبة ، وقالت الجنة : اجعلني للرحمة .

وقولُ مجاهد وعطاء : إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون ، يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها ؛ فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلانَ الحق وظهور الباطل . وهذا اختيار ابن جرير ، وهو حَسَن ؛ ولهذا قال : { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي : فصلت لهم مقطعات من نار .

قال سعيد بن جبير : من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي .

{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } . { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } أي : إذا صب على رءوسهم الحميم ، وهو الماء الحار في غاية الحرارة .

وقال سعيد [ بن جبير ]{[20082]} هو النحاس المذاب ، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم . وكذلك تذوب{[20083]} جلودهم ، وقال ابن عباس وسعيد : تساقط .

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالَقاني ، حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد{[20084]} ، عن أبي السَّمْح ، عن ابن{[20085]} حُجَيرة ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الحميم ليُصَب على رءوسهم ، فينفُد الجمجمةَ حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت{[20086]} ما في جوفه ، حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان " .

ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك{[20087]} ، وقال : حسن صحيح . وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي نعيم ، عن ابن المبارك ، به ثم قال ابن أبي حاتم :

حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَاريّ ، سمعت عبد الله ابن السُّرِّيّ قال : يأتيه الملك يحمل الإناء بِكَلْبتين من حرارته ، فإذا أدناه من وجهه تكرهه ، قال : فيرفع مِقْمَعَة معه فيضرب

بها رأسه ، فَيُفرغ{[20088]} دماغه ، ثم يُفرغ{[20089]} الإناء من دماغه ، فيصل إلى جوفه من دماغه ، فذلك قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }


[20079]:- في ت : "عن".
[20080]:- صحيح البخاري برقم (4743) وصحيح مسلم برقم (3033).
[20081]:- صحيح البخاري برقم (4744).
[20082]:- زيادة من ف ، أ.
[20083]:- في ف : "يذوب".
[20084]:- في ت ، ف : "زيد".
[20085]:- في ت : "أبي".
[20086]:- في أ : "فيسلت".
[20087]:- تفسير الطبري (17/100) وسنن الترمذي برقم (2582).
[20088]:- في ت ، ف : "فيقرع".
[20089]:- في ت : "يقرع".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { هََذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله ، فقال بعضهم : أحد الفريقين : أهل الإيمان ، والفريق الاَخر : عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو هاشم عن أبي مجاز ، عن قيس بن عبادة قال : سمعت أبا ذرّ يُقْسم قَسَما أن هذه الاَية : هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة . قال : وقال عليّ : إني لأوّل أو من أوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى .

حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجاز ، عن قيس بن عباد ، قال : سمعت أبا ذرّ يقسم بالله قسما لنزلت هذه الاَية في ستة من قريش : حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم ، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا في رَبّهِمْ . . . إلى آخر الاَية : إنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعملُوا الصّالحاتِ . . . إلى آخر الاَية .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجاز ، عن قيس بن عباد ، قال : سمعت أبا ذرّ يقسم ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن محبب ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور بن المعتمر ، عن هلال بن يساف ، قال : نزلت هذه الاَية في الذين تبارزوا يوم بدر : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت هؤلاء الاَيات : هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ في الذين تبارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . إلى قوله : وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الحَمِيدِ .

قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي هاشم ، عن أبي مُجَلّز ، عن قيس بن عباد ، قال : والله لأُنزلت هذه الاَية : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ في الذين خرج بعضهم إلى بعض يوم بدر : حمزة وعليّ وعُبيدة رحمة الله عليهم ، وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة .

وقال آخرون ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان : بل الفريق الاَخر أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : هم أهل الكتاب ، قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : نحن أحقّ بالله ، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا . وكان ذلك خصومتهم في ربهم .

وقال آخرون منهم : بل الفريق الاَخر الكفار كلهم من أيّ ملة كانوا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعطاء بن أبي رَياح وأبي قَزَعة ، عن الحسين ، قال : هم الكافرون والمؤمنون اختصموا في ربهم .

قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : مثل الكافر والمؤمن قال ابن جُرَيج : خصومتهم التي اختصموا في ربهم ، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين ، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : كان عاصم والكلبي يقولان جميعا في : هَذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل ، قال : جعل الشرك ملة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى . وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث .

وقال آخرون : الخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الاَية : الجنة والنار . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرِمة : هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ قال : هما الجنة والنار اختصمتا ، فقالت النار : خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة : خلقني الله لرحمته فقد قصّ الله عليك من خبرهما ما تسمع .

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب وأشبهها بتأويل الاَية ، قول من قال : عُني بالخصمين جميع الكفار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين . وإنما قلت ذلك أولى بالصواب ، لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه : أحدهما أهل طاعة له بالسجود له ، والاَخر : أهل معصية له ، قد حقّ عليه العذاب ، فقال : ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ ثم قال : وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ ، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما ، فقال : فالذين كَفرُوا قُطّعتْ لهُمْ ثيابٌ منْ نارٍ وقال الله : إنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ فكان بيّنا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما .

فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما رُوي عن أبي ذرّ في قوله : إنّ ذَلكَ نزل في الذين بارزوا يوم بدر ؟ قيل : ذلك إن شاء الله كما رُوي عنه ولكن الاَية قد تنزل بسبب من الأسباب ، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب . وهذه من تلك ، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله ، والاَخر أهل إيمان بالله وطاعة له ، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم ، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم .

فتأويل الكلام : هذان خصمان اختصموا في دين ربهم ، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الاَخر ومحاربته إياه على دينه .

وقوله : فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يقول تعالى ذكره : فأما الكافر بالله منهما فإنه يقطع له قميص من نحاس من نار . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قال : الكافر قطعت له ثياب من نار ، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : فالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قال : ثياب من نحاس ، وليس شيء من الاَنية أحمى وأشد حرّا منه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الكفار قطعت لهم ثياب من نار ، والمؤمن يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار .

وقوله : يُصَبّ مِنْ فَوْقِ رؤسِهِمُ الحَمِيمُ يقول : يصبّ على رؤسهم ماء مُغْلًي . كما :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطَالقاني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سعيد بن زيد ، عن أبي السّمْح ، عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الحَمِيمَ لَيُصَبّ عَلى رُؤُسِهِمْ ، فَيَنْفُذُ الجُمْجَمَةَ حتى يَخْلُصَ إلى جَوْفِهِ ، فَيَسْلُتَ ما فِي جَوْفِهِ حتى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ ، وَهِيَ الصّهْرُ ، ثُمّ يُعادُ كَما كانَ » .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يعمر بن بشر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا سعيد بن زيد ، عن أبي السمح ، عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله ، إلا أنه قال : «فَيَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ حَى يَخْلُصَ إلى جَوْفِهِ فَيَسْلُتَ مَا في جَوْفِهِ » .

وكان بعضهم يزعم أن قوله : ولَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ من المؤخّر الذي معناه التقديم ، ويقول : وجه الكلام : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رؤسهم الحميم ويقول : إنما وجب أن يكون ذلك كذلك ، لأن الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه ، ثم يصبّ فيه الحميم الذي انتهى حرّه فيقطع بطنه . والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا ، يدلّ على خلاف ما قال هذا القائل وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحميم إذا صبّ على رؤسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل ، ولو كانت المقامع قد تثقب رؤوسهم قبل صبّ الحميم عليها ، لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الحَميمَ يَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ » معنى ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

وقوله تعالى : { هذان خصمان } الآية ، اختلف الناس في المشار إليه بقوله { هذان } فقال قيس بن عباد وهلال بن يساف : نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر وهو ستة : حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، برزوا لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة{[8330]} وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة{[8331]} ، وأقسم أبو ذر على هذا القول ع ووقع أن الآية فيهم في صحيح البخاري ، وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم ديناً منكم ونحو هذا ، فنزلت الآية ، وقال عكرمة : المخاصمة بين الجنة والنار ، وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي : الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ع وهذا قول تعضده الآية ، وذلك أنه تقدم قوله { وكثير من الناس } المعنى هم مؤمنون ساجدون ، ثم قال { وكثير حق عليه العذاب } ثم أشار الى هذين الصنفين بقوله { هذان خصمان } والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعداواة والجدال والحرب ، وقوله تعالى : { خصمان } يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله { اختصموا } فإنها قراءة الجمهور ، وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما في ربهم » وقوله { في ربهم } معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده ، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته ، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم ، و { قطعت } معناه جعلت لهم بتقدير ، كما يفصل الثوب ، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي ، وروي في صب { الحميم } وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب «المقامع » فتنكشف أدمغتهم فيصب { الحميم } حينئذ ، وقيل بل يصب أولاً فيفعل ما وصف ، ثم تضرب ب «المقامع » بعد ذلك ، و { الحميم } الماء المغلي .


[8330]:في أسباب النزول للنيسابوري عن قيس بن عبادة قال: سمعت أبا ذر يقول: أقسم بالله لنزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم} في هؤلاء الستة: حمزة، عبيدة، وعلي بن أبي طالب، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة. ثم قال: رواه البخاري عن حجاج ابن منهال، عن هشيم بن هاشم. وفي الدر المنثور: "أخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه كان يقسم أن هذه الآية... الخ الحديث".
[8331]:أخرجه ابن أبي شيبة، والبخاري، والنسائي، وابن جرير، والبيهقي، من طريق قيس بن عبادة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة { هذان خصمان } موقع الاستئناف البياني . لأن قوله { وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى ، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك ، فهي استئناف بياني . فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى : { وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله : { وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] من كون أولئك فريقين : فريق يسجد لله تعالى ، وفريق يسجد لغيره . فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين ، ومثلها كثير في الكلام .

والاختصام : افتعال من الخصومة ، وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال : خاصمه واختصما ، وهو من الأفعال المقتضية جَانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحداً . وتقدم قوله تعالى : { ولا تكن للخائنين خصيماً } في [ سورة النساء : 105 ] . واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاءَ جلبتُه ، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيداً للتفصيل في قوله { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } .

فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين .

ووقع في « الصحيحين » عن أبي ذرّ : أنه كان يُقسِم أنَّ هذه الآية { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في حمزة وصاحبيه عليّ بن أبي طالب وعتبةَ بن الحارث الذين بارزوا يوم بدر شَيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليدَ بن عتبة .

وفي « صحيح البخاري » عن علي بن أبي طالب قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة . قال قيس بن عُبادة : وفيهم نزلت { هذان خصمان اختصموا في ربهم } . قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي ، وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة . وليس في كلام عليّ أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عُبادة ، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون { هذان } إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنُزّل حضورُ قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد ، وهو استعمال في كلام البُلغاء ، ومنه قول الأحنف بن قيس : « خرجتُ لأنصر هذا الرجل » يريد عليّ بن أبي طالب في قصة صفّين .

والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم ، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية .

ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين . والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازاً مرسلاً لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة .

واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت خصومتهم كما في قوله تعالى : { وهل أتاك نبأ الخصم إذا تسوروا المحراب } [ ص : 21 ] فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى : { اختصموا في ربهم } .

ومعنى { في ربهم } في شأنه وصفاته ، فالكلام على حذف مضاف ظاهر . وقرأ الجمهور { هاذان } بتخفيف النون . وقرأه ابن كثير بتشديد النون وهما لغتان .

والتقطيع : مبالغة القطع ، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته . والمراد : قطع شُقّة الثوب . وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده ، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار . والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة .

والحميم : الماء الشديد الحرارة .