يقول تعالى مخبرا عن نبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، إنه قال لمولاه زيد بن حارثة وهو الذي أنعم الله عليه ، أي : بالإسلام ، ومتابعة الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام : { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه } أي : بالعتق من الرق ، وكان سيدًا كبير الشأن جليل القدر ، حبيبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يقال له : الحِبّ ، ويقال لابنه أسامة : الحِبّ ابن الحِبّ . قالت عائشة ، رضي الله عنها : ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم ، ولو عاش بعده لاستخلفه . رواه أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد ، عن وائل بن داود ، عن عبد الله البهي عنها {[23515]} .
وقال{[23516]} البزار : حدثنا خالد بن يوسف ، حدثنا أبو عَوَانة( ح ) ، وحدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو عوانة ، أخبرني عمران بن أبي سلمة{[23517]} ، عن أبيه : حدثني أسامة بن زيد قال : كنت في المسجد ، فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، فقالا يا أسامة ، استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأتيتُ رسولَ الله فأخبرته ، فقلت : علي والعباس يستأذنان ؟ فقال : " أتدري ما حاجتهما ؟ " قلت : لا يا رسول الله . فقال : " لكني أدري " ، قال : فأذن لهما . قالا يا رسول الله ، جئناك لتخبرنا : أيُّ أهلك أحبُّ إليك ؟ فقال : " أحب أهلي إليَّ فاطمة بنت محمد " قالا يا رسول الله ، ما نسألك عن فاطمة . قال : " فأسامة بن زيد بن حارثة ، الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " {[23518]} .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زَوّجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية - وأمها أميمة{[23519]} بنت عبد المطلب - وأصدقها عشرة دنانير ، وستين درهما ، وخِمارا ، ومِلْحَفة ، ودرْعًا ، وخمسين مُدّا من طعام ، وعشرة أمداد من تمر . قاله مقاتل بن حيان ، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها ، ثم وقع بينهما ، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله يقول له : " أمسك عليك زوجك ، واتق الله " . قال الله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } .
ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا آثارًا عن بعض السلف ، رضي الله عنهم ، أحببنا أن نضرب عنها صفَحا لعدم صحتها فلا نوردها .
وقد روى الإمام أحمد هاهنا أيضا حديثًا ، من رواية حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس فيه غرابة تركنا سياقه أيضا{[23520]} .
وقد روى البخاري أيضا بعضه مختصرا فقال : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا مُعَلَّى{[23521]} بن منصور ، عن حماد بن زيد ، حدثنا ثابت ، عن أنس بن مالك قال : إن هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } نزلت في شأن زينب بنت جحش ، وزيد بن حارثة ، رضي الله عنهما{[23522]} .
وقال{[23523]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق ، حدثنا ابن عيينة ، عن علي بن زيد بن جُدْعان قال : سألني علي بن الحسين ما يقول الحسن في قوله : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ] }{[23524]} ؟ فذكرت له فقال : لا ولكن الله أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، فلما أتاه زيد ليشكوها إليه قال : اتق الله ، وأمسك عليك زوجك . فقال : قد أخبرتك أني مُزَوّجكها ، وتخفي في نفسك ما الله مبديه .
وهكذا رُوي عن السُّدِّي أنه قال نحو ذلك .
وقال{[23525]} ابن جرير : حدثني إسحاق بن شاهين ، حدثني خالد ، عن داود عن عامر ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا مما أوحي إليه من كتاب الله ، لكتم : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ }{[23526]} .
وقوله : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } : الوطر : هو الحاجة والأرب ، أي : لما فَرَغ منها ، وفارقها ، زَوّجناكها ، وكان الذي وَلي تزويجها منه هو الله ، عز وجل ، بمعنى : أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا مهر ولا عقد ولا شهود من البشر .
قال{[23527]} الإمام أحمد : حدثنا هاشم - يعني : ابن القاسم أبو النضر - حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : " اذهب فاذكرها علي " . فانطلق حتى أتاها وهي تُخَمِّر عَجينها ، قال : فلما رأيتها عظمت في صدري - حتى ما أستطيع أن أنظر إليها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت{[23528]} على عقبي ، وقلت : يا زينب ، أبشري ، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي ، عز وجل . فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن . ولقد رأيتنا حين دَخَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [ واتبعته ]{[23529]} فجعل يتتبع حُجر نسائه يسلم عليهن ، ويقلن : يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر . قال : فانطلق حتى دخل البيت ، فذهبت أدخل معه ، فألقي الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب ، ووعظ القوم بما وعظوا به : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } الآية .
ورواه مسلم والنسائي من طرق ، عن سليمان{[23530]} بن المغيرة ، به . {[23531]}
وقد روى البخاري ، رحمه الله ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات{[23532]} .
وقد قدمنا في " سورة النور " عن محمد بن عبد الله بن جحش قال : تفاخرت زينب وعائشة ، فقالت زينب ، رضي الله عنها{[23533]} : أنا التي نزل تزويجي من السماء ، وقالت عائشة : أنا التي نزل عُذْري من السماء ، فاعترفت لها زينب ، رضي الله عنها . {[23534]}
وقال{[23535]} ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن المغيرة ، عن الشعبي قال : كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدل بهن : إن جدي وجدك واحد ، وإني أنكحنيك الله من السماء ، وإن السفير جبريل عليه السلام . {[23536]}
وقوله : { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } أي : إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك ؛ لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة ، فكان يقال له : " زيد بن محمد " ، فلما قطع الله هذه النسبة بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } ، ثم زاد ذلك بيانا وتأكيدا بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش لما طلقها زيد بن حارثة ؛ ولهذا قال في آية التحريم : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُم } [ النساء : 23 ] ليحترز من الابن الدَّعِي ؛ فإن ذلك كان كثيرًا فيهم .
وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } أي : وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحَتَّمه ، وهو كائن لا محالة ، كانت زينب في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عتابا من الله له وَ اذكر يا محمد إذْ تَقُولُ لِلّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ بالهِداية وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعِتق ، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهِ ، وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذُكر رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته ، وهي في حبال مولاه ، فألِقي في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع ، فأراد فراقها ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وهو صلى الله عليه وسلم يحبّ أن تكون قد بانت منه لينكحها ، وَاتّقِ اللّهَ وخَفِ الله في الواجب له عليك في زوجتك وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ يقول : وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوّجها إن هو فارقها ، والله مبد ما تخفي في نفسك من ذلك وتَخْشَى النّاسَ واللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ يقول تعالى ذكره : وتخاف أن يقول الناس : أمر رجلاً بطلاق امرأته ونكحها حين طلّقها ، والله أحقّ أن تخشاه من الناس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإذْ تَقُولُ للّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعمت عليه أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ قال : وكان يخفي في نفسه ودّ أنه طلقها . قال الحسن : ما أنزلت عليه آية كانت أشدّ عليه منها قوله : وتُخْفِي في نفسك ما اللّهُ مُبْدِيهِ ولو كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتمها وتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ قال : خشِي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مقالة الناس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد زوّج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، ابنة عمته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يريده وعلى الباب ستر من شعر ، فرفعت الريح الستر فانكشف ، وهي في حجرتها حاسرة ، فوقع إعجابها في قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما وقع ذلك كرّهت إلى الاَخر ، فجاء فقال : يا رسول الله ، إني أريد أن أفارق صاحبتي ، قال : «ما لَكَ ، أرَابَكَ مِنْها شَيْءٌ ؟ » قال : لا ، والله ما رابني منها شيء يا رسول الله ، ولا رأيت إلا خيرا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ » ، فذلك قول الله تعالى : وَإذْ تَقُولُ للّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ تخفي في نفسك إن فارقها تزوّجتها .
حدثني محمد بن موسى الجرشي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أبي حمزة ، قال : نزلت هذه الاَية : وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيه في زينب بنت جحش .
حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عليّ بن زيد بن جدعان ، عن عليّ بن حسين ، قال : كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما أتاه زيد يشكوها قال : اتّقِ اللّهَ وأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، قال الله : وتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْديهِ .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة ، قالت : لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله لكتم : وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ .
وقوله : فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا زَوّجْناكَها يقول تعالى ذكره : فلما قضى زيد بن حارثة من زينب حاجته ، وهي الوطر ومنه قول الشاعر :
وَدّعَنِيِ قَبْلَ أن أُوَدّعَهُ *** لَمّا قَضَى منْ شَبَابِنا وَطَرَا
زَوّجْناكَها يقول : زوّجناك زينب بعد ما طلقها زيد وبانت منه لكَيْلا يَكُونَ على المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ يعني : في نكاح نساء من تَبَنّوا وليسوا ببنيهم ولا أولادهم على صحة إذا هم طلقوهنّ وبنّ منهم إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا يقول : إذا قضوا منهنّ حاجاتهم ، وآرابهم وفارقوهنّ وحَلَلْن لغيرهم ، ولم يكن ذلك نزولاً منهم لهم عنهنّ وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً يقول : وكان ما قضى الله من قضاء مفعولاً : أي كائنا كان لا محالة . وإنما يعني بذلك أن قضاء الله في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ماضيا مفعولاً كائنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِكَيْلا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا يقول : إذا طلّقوهنّ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبَنىّ زيد بن حارثة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا . . . إلى قوله : وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً إذا كان ذلك منه غير نازل لك ، فذلك قول الله : وَحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ .
حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن المعلى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش ، قال : تفاخرت عائشة وزينب ، قال : فقالت زينب : أنا الذي نزل تزويجي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : كانت زينب زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم تقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إني لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهنّ . إن جدّي وجدّك واحد ، وإني أنكحنيك الله من السماء ، وإن السفير لجبرائيلُ عليه السلام .
ثم عاتب تعالى نبيه بقوله : { وإذ تقول } الآية ، واختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب وهي في عصمة زيد وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ، ثم إن زيداً لما اخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له : اتق الله فيما تقول عنها و { أمسك عليك زوجك } وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها وهذا هو الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف ، وقالوا خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالة الناس في ذلك فعاتبه الله تعالى على جميع هذا{[9520]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «ما الله مظهره » ، وقال الحسن : ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أشد عليه من هذه الآية ، وقال هو وعائشة : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه ، وروى ابن زيد في نحو هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب زيداً في داره فلم يجده ورأى زينب حاسرة فأعجبته فقال ( سبحان الله مقلب القلوب ){[9521]} .
قال القاضي أبو محمد : وروي في هذه القصة أشياء يطول ذكرها ، وهذا الذي ذكرناه مستوف لمعانيها ، وذهب قوم من المتأولين إلى أن الآية لا كبير عتب فيها ، ورووا عن علي بن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيداً يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له ، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب وأنها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية : «اتق الله » أي في أقوالك و «أمسك عليك زوجك » وهو يعلم أنه سيفارقها وهذا هو الذي أخفى في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم من أنه سيتزوجها ، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في أمر أباحه الله تعالى له وإن قال { أمسك } مع علمه أنه يطلق وأعلمه أن الله أحق بالخشية أي في كل حال{[9522]} ، وقوله : { أنعم الله عليه } يعني بالإسلام وغير ذلك ، وقوله : { وأنعمت عليه } يعني بالعتق وهو زيد بن حارثة ، وزينب هي بنت جحش وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أعلم تعالى أنه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها لتكون سنة للمسلمين في أزواج أدعيائهم وليتبين أنا ليست كحرمة النبوة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد : ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ ، قال فذهبت ووليتها ظهري توقيراً للنبي صلى الله عليه وسلم وخطبتها ففرحت ، وقالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها{[9523]} .
و «الوطر » : الحاجة والبغية ، والإشارة هنا إلى الجماع ، وروى جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم «وطراً زوجتكها » .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذهب بعض النّاس من هذه الآية ومن قول شعيب { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين }{[9524]} [ القصص : 7 ] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون أنكحه إياها فيقدم ضمير الزوج لما في الآيتين ، وهذا عندي غير لازم لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه ، وفي المهور الزوجان غائبان{[9525]} فقدم من شئت فلم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال وأنهم القوامون ، وقوله تعالى : { وكان أمر الله مفعولاً } فيه حذف مضاف تقديره وكان حكم أمر الله أو مضمن أمر الله ، وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول ، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور أي التي شأنها أن تفعل ، وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا ، فقالت عائشة : أنا التي سبقت صفتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة في سرقة حرير{[9526]} ، وقالت زينب : أنا التي زوجني الله من فوق سبع سماوات{[9527]} .
وقال الشعبي : كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن أن جدي وجدك واحد وأن الله أنكحك إياي من السماء وأن السفير في ذلك جبريل{[9528]} .