تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ} (81)

يقول تعالى ذَامّا للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وفرحوا بمقعدهم{[13717]} بعد خروجه ، { وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا } معه { بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا } أي : بعضهم لبعض : { لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ } ؛ وذلك أن الخروج في{[13718]} غزوة تبوك كان في شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، فلهذا قالوا{[13719]} { لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ } قال الله تعالى لرسوله : { قل } لهم : { نَارُ جَهَنَّمَ } التي تصيرون إليها بسبب مخالفتكم { أَشَدُّ حَرًّا } مما فررتم منه من الحر ، بل أشد حرا من النار ، كما قال الإمام مالك ، عن أبي الزِّناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نار بني آدم التي يوقدون بها جزءٌ من سبعين جزءًا [ من نار جهنم " فقالوا : يا رسول الله ، إن كانت لكافية . قال{[13720]} إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا ]{[13721]} أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، به{[13722]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي{[13723]} صلى الله عليه وسلم قال : " إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، وضربت بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل [ الله ]{[13724]} فيها منفعة لأحد " {[13725]} وهذا أيضا إسناده صحيح{[13726]} وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه ، عن عباس الدوري ، عن يحيى بن أبي بكير{[13727]} عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوقد على النار ألف سنة حتى احمرَّت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضَّت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت ، فهي سوداء كالليل المظلم " . ثم قال الترمذي : لا أعلم أحدا رفعه غير يحيى{[13728]} كذا قال . وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن إبراهيم بن محمد ، عن محمد بن الحسين بن

مكرم ، عن عبيد الله بن سعد{[13729]} عن عمه ، عن شريك - وهو ابن عبد الله النخعي - به . وروى أيضا ابن مردويه من رواية مبارك بن فضالة ، عن ثابت ، عن أنس قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ التحريم : 6 ] قال : " أُوقد عليها ألف عام حتى ابيضت ، وألف عام حتى احمرت ، وألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء كالليل ، لا يضيء لهبها " {[13730]} وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نَجِيح - وقد اختلف فيه - عن الحسن ، عن أنس مرفوعا : " لو أن شرارة بالمشرق - أي من نار جهنم - لوجد حرها مَنْ بالمغرب " {[13731]} وروى الحافظ أبو يعلى عن إسحاق بن أبي إسرائيل ، عن أبي عبيدة الحداد ، عن هشام بن حسان{[13732]} عن محمد بن شبيب ، عن جعفر بن أبي وحشية ، عن سعيد بن جُبَير ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كان هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون ، وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه ، لاحترق المسجد ومن فيه " {[13733]} غريب .

وقال الأعمش عن أبي إسحاق ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشِرَاكان من نار ، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أحدا من أهل النار أشدُّ عذابا منه ، وإنه أهونهم عذابا " . أخرجاه في الصحيحين ، من حديث الأعمش{[13734]} وقال مسلم أيضا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر{[13735]} حدثنا زهير بن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن النعمان بن أبي عياش{[13736]} عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أدنى أهل النار عذابا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار ، يغلي دماغه من حرارة نعليه " {[13737]} وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن ابن عجلان ، سمعت أبي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أدنى أهل النار عذابا رجل يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه " {[13738]}

وهذا إسناد جيد قوي ، رجاله على شرط مسلم ، والله أعلم .

والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة ، وقال الله تعالى في كتابه العزيز : { كَلا إِنَّهَا لَظَى نزاعَةً لِلشَّوَى } [ المعارج : 15 ، 16 ] وقال تعالى : { يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [ الحج : 19 - 22 ] وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } [ النساء : 56 ]

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة [ الأخرى ]{[13739]} { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي : لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر ، ليتقوا به حَرَّ جهنم ، الذي هو أضعاف أضعاف هذا ، ولكنهم كما قال الآخر{[13740]} كالمستجير من الرمضاء بالنار

وقال الآخر :

عُمرُكَ بالحميَة أفْنَيْتَه *** مَخَافَةَ البارد والحَار

وَكانَ أولَى بك أنْ تَتقي *** مِنَ المعَاصِي حَذرَ النَّار


[13717]:- في ت ، أ : "بقعودهم".
[13718]:- في ت ، أ : "إلى".
[13719]:- في ك : "قال".
[13720]:- في ت ، ك ، أ : "فقال".
[13721]:- زيادة من ت ، ك ، أ ، والموطأ.
[13722]:- الموطأ (2/994) وصحيح البخاري برقم (3265) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2843) من طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد به.
[13723]:- في ك : "أن رسول الله".
[13724]:- زيادة من ت ، ك ، أ ، . والمسند.
[13725]:- المسند (2/244).
[13726]:- في ت ، أ : "إسناد جيد صحيح".
[13727]:- في أ : "بكر".
[13728]:- سنن الترمذي برقم (2591) وسنن ابن ماجه برقم (4320) وقال الترمذي : "حديث أبي هريرة في هذا موقوف أصح ، ولا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن أبي بكير عن شريك".
[13729]:- في ت ، ك ، أ : "سعيد".
[13730]:- ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (799) من طريق سهل بن حماد عن مبارك بن فضالة به نحوه.
[13731]:- المعجم الأوسط برقم (4841) "مجمع البحرين" وأشار الحافظ هنا إلى الاختلاف في حال تمام بن نجيح ، قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/362) : "في إسناده احتمال للتحسين".
[13732]:- في جميع النسخ : "حسام" والتصويب من أبي يعلى.
[13733]:- مسند أبي يعلى (12/22) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/307) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل به ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (4/363) : "إسناده حسن ، وفي متنه نكارة".
[13734]:- صحيح البخاري برقم (6562) وصحيح مسلم برقم (213).
[13735]:- في أ : "بكر".
[13736]:- في أ : "عباس".
[13737]:- صحيح مسلم برقم (211).
[13738]:- المسند (2/438).
[13739]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13740]:- وصدر البيت : والمستجير بعمرو عند كربته وذكره داود الأنطاكي في مصارع العشاق (ص 219).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ} (81)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوَاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّاً لّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } .

يقول تعالى ذكره : فرح الذين خلفهم الله عن الغزو مع رسوله والمؤمنين به وجهاد أعدائه بمقعدهم خِلافَ رَسُولِ اللّهِ يقول : بجلوسهم في منازلهم خلاف رسول الله ، يقول : على الخلاف لرسول الله في جلوسه ومقعده . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنفر إلى جهاد أعداء الله ، فخالفوا أمره وجلسوا في منازلهم . وقوله : خِلاف مصدر من قول القائل : خالف فلان فلانا فهو يخالفه خلافا فلذلك جاء مصدره على تقدير فعال ، كما يقال : قاتله فهو يقاتله قتالاً ، ولو كان مصدرا من خلَفه ، لكانت القراءة : «بمقعدهم خلف رسول الله » ، لأن مصدر خلفه خلفٌ ، لا خِلاف ، ولكنه على ما بينت من أنه مصدر خالف ، فقرىء : خِلافَ رَسُولِ الله وهي القراءة التي عليها قراءة الأمصار ، وهي الصواب عندنا . وقد تأوّل بعضهم ذلك ، بمعنى : بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستشهد على ذلك بقول الشاعر :

عَقَبَ الرّبِيعُ خِلافَهُمْ فَكأنمَا *** بَسَطَ الشّوَاطِبُ بَيْنَهُنّ حَصِيرَا

وذلك قريب لمعنى ما قلنا ، لأنهم قعدوا بعده على الخلاف له .

وقوله : وكَرِهُوا أنْ يُجاهِدُوا بأمُوَالِهِمْ وأنْفُسِهمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : وكره هؤلاء المخلفون أن يغزوا الكفار بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله يعني : في دين الله الذي شرعه لعباده لينصروه ، ميلاً إلى الدّعَة والخَفْض ، وإيثارا للراحة على التعب والمشقة ، وشُحّا بالمال أن ينفقوه في طاعة الله . وَقالُوا لا تَنْفِرُوا في الحَرّ وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استنفرهم إلى هذه الغزوة ، وهي غزوة تبوك في حرّ شديد ، فقال المنافقون بعضهم لبعض : لا تنفروا في الحرّ فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد نار جهنم التي أعدّها الله لمن خالف أمره وعصى رسوله ، أشدّ حرّا من هذا الحرّ الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا فيه . يقول : الذي هو أشدّ حرّا أحرى أن يحذر ويتقي من الذي هو أقلهما أذى . لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ يقول : لو كان هؤلاء المنافقون يفقهون عن الله وعظه ويتدبرون آي كتابه ، ولكنهم لا يفقهون عن الله ، فهم يحذرون من الحرّ أقله مكروها وأخفه أذى ، ويوافقون أشدّه مكروها وأعظمه على من يصلاه بلاء .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَرِحَ المُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهمْ خلافَ رَسُولِ اللّهِ . . . إلى قوله : يَفْقَهُونَ ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه ، وذلك في الصيف ، فقال رجال : يا رسول الله ، الحرّ شديد ولا نستطيع الخروج ، فلا تنفر في الحرّ فقال الله : قلْ نارُ جَهَنّمَ أشَدّ حَرّ لو كانوا يفقهون ) ، فأمره الله بالخروج .

17034- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتاده في قوله : ( بمقعدهم خلاف رسول الله ) ، قال : هي غزوة تبوك .

17035- حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي وغيره ، قالوا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد إلى تبوك ، فقال رجل من بني سلمة : لا تنفروا في الحرّ فأنزل الله : قُلْ نارُ جَهَنّمَ . . . الآية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ذكر قول بعضهم لبعض ، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد ، وأجمع السير إلى تبوك على شدّة الحرّ وجدب البلاد ، يقول الله جلّ ثناؤه : وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الحرّ قُلْ نارُ جَهَنّمَ أشَدّ حَرّا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ} (81)

{ فرح المخلَّفون بمقعدهم خلاف رسول الله } بقعودهم عن الغزو خلفه يقال أقام خلاف الحي أي بعدهم ، ويجوز أن يكون بمعنى المخالفة فيكون انتصابه على العلة أو الحال . { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } إيثارا للدعة والخفض على طاعة الله ، وفيه تعريض بالمؤمنين الذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال والمهج . { وقالوا لا تنفروا في الحرّ } أي قال بعضهم لبعض أو قالوه للمؤمنين تثبيطا . { قل نار جهنم أشد حرّاً } وقد آثرتموها بهذه المخالفة . { لو كانوا يفقهون } أن مآبهم إليها ، أو أنها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ} (81)

استئناف ابتدائي . وهذه الآية تشير إلى ما حصل للمنافقين عند الاستنفار لغزوة تبوك فيكون المراد بالمخلّفين خصوص من تخلّف عن غزوة تبوك من المنافقين .

ومناسبة وقوعها في هذا الموضع أنّ فرحهم بتخلّفهم قد قَوِي لمّا استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم وظنّوا أنّهم استغفلوه فقضَوا مأربهم ثم حصَّلوا الاستغفار ظنّاً منهم بأنّ معاملة الله إياهم تجري على ظواهر الأمور .

فالمخلَّفون هم الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فأذِن لهم وكانوا من المنافقين فلذلك أطلق عليهم في الآية وصف المخلّفين بصيغة اسم المفعول لأنّ النبي خلَّفهم ، وفيه إيماء إلى أنّه ما أذن لهم في التخلّف إلاّ لعلمه بفساد قلوبهم ، وأنّهم لا يغنون عن المسلمين شيئاً كما قال : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً } [ التوبة : 47 ] .

وذكر فرحهم دلالة على نفاقهم لأنّهم لو كانوا مؤمنين لكان التخلّف نكداً عليهم ونغصاً كما وقع للثلاثة الذين خلّفوا فتاب الله عليهم .

والمَقْعد هنا مصدر ميمي أي بقعودهم .

و { خِلاَف } لغة في خَلْف . يقال : أقام خلاف الحي بمعنى بَعدهم ، أي ظعنوا ولم يظعن . ومن نكتة اختيار لفظ خلاف دون خَلْف أنّه يشير إلى أن قعودهم كان مخالفة لإرادة رسول الله حين استنفر الناس كلّهم للغزو . ولذلك جعله بعضُ المفسّرين منصوباً على المفعول له ، أي بمقعدهم لمخالفة أمر الرسول .

وكراهيتُهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله خصلة أخرى من خصال النفاق لأنّ الله أمر بذلك في الآية المتقدمة { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } [ التوبة : 41 ] الآية ، ولكونها خصلةً أخرى جُعلت جملتها معطوفة ولم تجعل مقترنة بلام التعليل مع أنّ فرحهم بالقعود سببه هو الكراهية للجهاد .

وقولُهم : { لا تنفروا في الحر } خطابُ بعضهم بعضاً وكانت غزوة تبوك في وقت الحرّ حين طابت الظلال .

وجملة : { قل نار جهنم أشد حراً } مستأنفة ابتدائية خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود قرع أسماعهم بهذا الكلام .

وكونُ نار جهنّم أشدّ حرّاً من حرّ القيظ أمر معلوم لا يتعلّق الغرض بالإخبار عنه . فتعيّن أنّ الخبر مستعمل في التذكير بما هو معلوم تعريضاً بتجهيلهم لأنّهم حذروا من حرّ قليل وأقحموا أنفسهم فيما يصير بهم إلى حرّ أشدّ . فيكون هذا التذكير كناية عن كونهم واقعين في نار جهنّم لأجل قعودهم عن الغزو في الحرّ ، وفيه كناية عُرضية عن كونهم صائرين إلى نار جهنّم .

وجملة : { لو كانوا يفقهون } تتميم ، للتجهيل والتذكير ، أي يقال لهم ذلك لو كانوا يفقهون الذكرى ، ولكنّهم لا يفقهون ، فلا تجدي فيهم الذكرى والموعظة ، إذا ليس المراد لو كانوا يفقهون أنّ نار جهنم أشدّ حرّاً لأنّه لا يخفى عليهم ولو كانوا يفقهون أنّهم صائرون إلى النار ولكنّهم لا يفقهون ذلك .