اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ} (81)

قوله تعالى : { فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ } الآية .

" بِمَقْعدِهِم " متعلقٌ ب " فرح " ، وهو يصلحُ لمصدر " قَعَدَ " ، وزمانه ومكانه .

قال الجوهريُّ " قَعَدَ قُعُوداً ومَقْعَداً " ، جَلس ، وأقعَده غيره " والمخلف : المتروكُ ، أي : خلفهم الله وثبطهم ، أو خلفهم رسول الله - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنون ، لمَّا علموا تثاقلهم عن الجهادِ والمرادُ ب " المقعد " ههنا المصدر ، أي ؛ بقُعُودِهِمْ وإقامتهم بالمدينة . وقال ابنُ عبَّاسٍ : يريدُ : المدينة ؛ فعلى هذا هو اسمُ مكانٍ .

فإن قيل : إنَّهم احتالُوا حتى تخلَّفُوا عن رسول الله ؛ فكان الأولى أن يقال : فرح المتخلفون فالجوابُ من وجوه :

أحدها : أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام منع أقواماً من الخروج معه لعلمه أنَّهم يفسدون ويشوشون ، وكان هذا في غزوة تبوك ؛ فهؤلاء كانوا مخلَّفين لا متخلِّفين .

وثانيها : أنَّ أولئك المتخلفين صارُوا مخلفين في قوله بعد هذه الآية : { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] ، فلمَّا منعهم الله من الخروج صارُوا مخلفين .

وثالثها : أنَّ من يتخلَّف عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الجهاد ، يوصف بأنَّه مخلف من حيث إنَّهُ لم ينهض ، وبقي وأقام .

قوله : { خِلاَفَ رَسُولِ الله } فيه ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله " مَقْعدِهِمْ " ؛ لأنَّه في معنى تخلَّفوا ، أي : تخلَّفوا خلاف رسول الله .

الثاني : أنَّ " خلاف " مفعولٌ من أجله ، والعامل فيه إمَّا " فَرِحَ " ، وإمَّا " مَقْعَد " أي : فَرِحُوا ؛ لأجل مخالفتهم رسول الله ، حيثُ مضى هو للجهاد ، وتخلَّفوا هم عنه ، أو بقعودهم لمخالفتهم له ، وإليه ذهب الطبريُّ ، والزجاج ، ومؤرِّج ، وقطرُب ، ويُؤيدُ ذلك قراءةُ من قرأ{[18004]} " خُلْف " بضم الخاء وسكون اللاَّم .

والثالث : أن ينتصب على الظرف ، أي : بعد رسول الله ، يقال : أقام زيد خلاف القوم ، أي : تخلَّف بعد ذهابهم .

قال الأخفش{[18005]} وأبو عبيدة : إنَّ " خلافَ " بمعنى : " خَلْف " ، وأنَّ يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه : بعد رسول الله . ويؤيده قراءة ابن عبَّاسٍ ، وأبو{[18006]} حيوة ، وعمرو بن ميمون " خَلْفَ " بفتح الخاءِ وسكون اللاَّمِ .

وعلى هذا القول ، الخلاف : اسم للجهةِ المعينة كالخلف ، وذلك أنَّ المتوجِّه إلى قُدَّامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قُدَّامه في كونها جهة مُتوجِّهاً إليها ، و " خِلافَ " بمعنى " خَلْف " مستعمل ، وأنشد أبو عبيدة للأحوص : [ الكامل ]

عَقَبَ الرَّبيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا *** بَسَطَ الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا{[18007]}

وقول الآخر : [ الطويل ]

فَقُلْ للَّذِي يَبْقَى خلافَ الذي مَضَى *** تَأهَّبْ لأخْرَى مِثلهَا فكأنْ قَدِ{[18008]}

قوله تعالى : { وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } أي : إنَّهم فرحوا بسبب التخلف ، وكرهُوا الذهاب إلى الغزو .

واعلم أنَّ الفرح بالإقامة يدل على كراهيةِ الذهاب ، إلاَّ أنَّهُ أعاده للتَّأكيد ، أو لعلَّ أن المراد أنَّ طبعه مال إلى الإقامة ؛ لأجل إلفه البلدة ، واستثنائه بأهله وولده ، وكره الخروج إلى الغزو ؛ لأنَّهُ تعريضٌ للمال والنفس للقتلِ ، وأيضاً منعهم عن الخروج شدة الحرِّ في وقت خروج رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المرادُ من قوله : { لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر } ، فأجاب اللهُ عن هذا الأخير بقوله : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي : يعلمون ، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود ، أي : بعد هذه الدَّار ، دار أخرى ، وبعد هذه الحياة حياة أخرى ، وأيضاً هذه مشقة منقضية ، وتلك مشقة باقية .

وأنشد الزمخشريُّ لبعضهم : [ الطويل ]

مَسَرَّةَ أحْقابٍ تلقَّيْتُ بَعْدهَا *** مسَاءةَ يَوْمٍ أريُهَا شَبَهُ الصَّابِ

فَكيفَ بأنْ تَلْقَى مسرَّةَ سَاعَةٍ *** ورَاء تَقَضِّيها مَسَاءَةُ أحْقَابِ{[18009]}


[18004]:ينظر: المحرر الوجيز 3/66، البحر المحيط 5/81، الدر المصون 3/487.
[18005]:ينظر: معاني القرآن للأخفش 2/334.
[18006]:ينظر: الكشاف 2/296، المحرر الوجيز 3/66، البحر المحيط 5/81، الدر المصون 3/487.
[18007]:البيت للحارث بن خالد المخزومي. ينظر: مجاز القرآن 1/264، والطبري 14/298 والتفسير الكبير 16/149، واللسان (خلف) و(عقب)، والبحر المحيط 5/80 والمحرر الوجيز 3/554.
[18008]:ينظر: معجم الشعراء 6، والبحر المحيط 5/80، واللسان (خلف) والدر المصون 3/487.
[18009]:ينظر: الكشاف 2/205، والتفسير الكبير 16/149، 150، والبحر المحيط 5/79، والدر المصون 3/488.