قوله تعالى : { فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ } الآية .
" بِمَقْعدِهِم " متعلقٌ ب " فرح " ، وهو يصلحُ لمصدر " قَعَدَ " ، وزمانه ومكانه .
قال الجوهريُّ " قَعَدَ قُعُوداً ومَقْعَداً " ، جَلس ، وأقعَده غيره " والمخلف : المتروكُ ، أي : خلفهم الله وثبطهم ، أو خلفهم رسول الله - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنون ، لمَّا علموا تثاقلهم عن الجهادِ والمرادُ ب " المقعد " ههنا المصدر ، أي ؛ بقُعُودِهِمْ وإقامتهم بالمدينة . وقال ابنُ عبَّاسٍ : يريدُ : المدينة ؛ فعلى هذا هو اسمُ مكانٍ .
فإن قيل : إنَّهم احتالُوا حتى تخلَّفُوا عن رسول الله ؛ فكان الأولى أن يقال : فرح المتخلفون فالجوابُ من وجوه :
أحدها : أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام منع أقواماً من الخروج معه لعلمه أنَّهم يفسدون ويشوشون ، وكان هذا في غزوة تبوك ؛ فهؤلاء كانوا مخلَّفين لا متخلِّفين .
وثانيها : أنَّ أولئك المتخلفين صارُوا مخلفين في قوله بعد هذه الآية : { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] ، فلمَّا منعهم الله من الخروج صارُوا مخلفين .
وثالثها : أنَّ من يتخلَّف عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الجهاد ، يوصف بأنَّه مخلف من حيث إنَّهُ لم ينهض ، وبقي وأقام .
قوله : { خِلاَفَ رَسُولِ الله } فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله " مَقْعدِهِمْ " ؛ لأنَّه في معنى تخلَّفوا ، أي : تخلَّفوا خلاف رسول الله .
الثاني : أنَّ " خلاف " مفعولٌ من أجله ، والعامل فيه إمَّا " فَرِحَ " ، وإمَّا " مَقْعَد " أي : فَرِحُوا ؛ لأجل مخالفتهم رسول الله ، حيثُ مضى هو للجهاد ، وتخلَّفوا هم عنه ، أو بقعودهم لمخالفتهم له ، وإليه ذهب الطبريُّ ، والزجاج ، ومؤرِّج ، وقطرُب ، ويُؤيدُ ذلك قراءةُ من قرأ{[18004]} " خُلْف " بضم الخاء وسكون اللاَّم .
والثالث : أن ينتصب على الظرف ، أي : بعد رسول الله ، يقال : أقام زيد خلاف القوم ، أي : تخلَّف بعد ذهابهم .
قال الأخفش{[18005]} وأبو عبيدة : إنَّ " خلافَ " بمعنى : " خَلْف " ، وأنَّ يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه : بعد رسول الله . ويؤيده قراءة ابن عبَّاسٍ ، وأبو{[18006]} حيوة ، وعمرو بن ميمون " خَلْفَ " بفتح الخاءِ وسكون اللاَّمِ .
وعلى هذا القول ، الخلاف : اسم للجهةِ المعينة كالخلف ، وذلك أنَّ المتوجِّه إلى قُدَّامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قُدَّامه في كونها جهة مُتوجِّهاً إليها ، و " خِلافَ " بمعنى " خَلْف " مستعمل ، وأنشد أبو عبيدة للأحوص : [ الكامل ]
عَقَبَ الرَّبيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا *** بَسَطَ الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا{[18007]}
فَقُلْ للَّذِي يَبْقَى خلافَ الذي مَضَى *** تَأهَّبْ لأخْرَى مِثلهَا فكأنْ قَدِ{[18008]}
قوله تعالى : { وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } أي : إنَّهم فرحوا بسبب التخلف ، وكرهُوا الذهاب إلى الغزو .
واعلم أنَّ الفرح بالإقامة يدل على كراهيةِ الذهاب ، إلاَّ أنَّهُ أعاده للتَّأكيد ، أو لعلَّ أن المراد أنَّ طبعه مال إلى الإقامة ؛ لأجل إلفه البلدة ، واستثنائه بأهله وولده ، وكره الخروج إلى الغزو ؛ لأنَّهُ تعريضٌ للمال والنفس للقتلِ ، وأيضاً منعهم عن الخروج شدة الحرِّ في وقت خروج رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المرادُ من قوله : { لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر } ، فأجاب اللهُ عن هذا الأخير بقوله : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي : يعلمون ، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود ، أي : بعد هذه الدَّار ، دار أخرى ، وبعد هذه الحياة حياة أخرى ، وأيضاً هذه مشقة منقضية ، وتلك مشقة باقية .
وأنشد الزمخشريُّ لبعضهم : [ الطويل ]
مَسَرَّةَ أحْقابٍ تلقَّيْتُ بَعْدهَا *** مسَاءةَ يَوْمٍ أريُهَا شَبَهُ الصَّابِ
فَكيفَ بأنْ تَلْقَى مسرَّةَ سَاعَةٍ *** ورَاء تَقَضِّيها مَسَاءَةُ أحْقَابِ{[18009]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.