روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ} (81)

{ فَرِحَ المخلفون } أي الذين خلفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأذن لهم في التخلف أو خلفهم الله تعالى بتثبيطه إياهم لحكمة علمها أو خلفهم الشيطان باغرائه أو خلفهم الكسل والنفاق { بِمَقْعَدِهِمْ } متعلق بفرح وهو مصدر ميمي بمعنى القعود . وقيل : اسم مكان ، والمراد منه المدينة ، والأكثرون على الأول أي فرحوا بقعودهم عن الغزو { خلاف رَسُولِ الله } أي خلفه عليه الصلاة والسلام وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا ، فهو نصب على الظرفية بمعنى بعد وخلف وقد استعملته العرب في ذلك ، والعامل فيه كما قال أبو البقاء { مَقْعَدِ } وجوز أن يكون { فَرِحَ } . وقيل : هو بمعنى المخالفة فيكون مصدر خالف كالقتال وحينئذ يصح أن يكون حالاً بمعنى مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكون مفعولاً له والعامل إما { فَرِحَ } أي فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود وإما { مقعدهم } أي فرحوا بقعودهم لأجل المخالفة ، وجعل المخالفة علة باعتبار أن قصدهم ذلك لنفاقهم ولا حاجة إلى أن يقال قصدهم الاستراحة ولكن لما آل أمرهم إلى ذلك جعل علة كما قالوا في لام العاقبة وجوز أن يكون نصباً على المصدر بفعل دل عليه الكلام .

{ وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله } إيثاراً للراحة والتنعم بالمآكل والمشارب مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ، وبين الفرح والكراهة مقابلة معنوية لأن الفرح بما يحب .

وإيثار ما في النظم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذان بأن اجلهاد في سبيل الله تعالى مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي الكلام تعريض بالمئمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه ابتغاء لرضا الله تعالى ورسوله { وَقَالُواْ } أي لاخوانهم تثبيتاً لهم على القعود وتواصياً بينهم بالفساد أو للمؤمنين تثبيطاً لهم على الجهاد ونهياً عن المعروف وإظهاراً لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به ، والقائل رجال من المنافقين كما روي عن جابر بن عبد الله وهو الذي يقتضيه الظاهر .

وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أن القائل رجل من بني سلمة ، ووجه ضمير الجمع على هذا يعلم بما مر غير مرة { لاَ تَنفِرُواْ } لا تخرجوا إلى الغزو { فِى الحر } فإنه لا يستطاع شدته { قُلْ } يا محمد رداً عليهم وتجهيلاً لهم { نَارُ جَهَنَّمَ } التي هي مصيركم بما فعلتم { أَشَدُّ حَرّا } من هذا الحر الذي ترونه مانعاً من النفير فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود والمخالفة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام { لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } تذييل من جهته تعالى غير داخل على القول المأمور به مؤكد لمضمونه ، وجواب { لَوْ } مقدر وكذا مفعول { يَفْقَهُونَ } أي لو كانوا يعلمون أنها كذلك أو أحوالها وأهوالها أو أن مرجعهم إليها لما آثروا راحة زمن قليل على عذاب الأبد ، وأجهل الناس من صان نفسه عن أمير يسير يوقعه في ورطة عظيمة ، وأنشد الزمخشري لابن أخت خالته :

مسرة أحقاب تلقيت بعدها *** مساءة يوم أريها شبه الصاب

فكيف بأن تلقى مسرة ساعة *** وراء تقضيها مساءة أحقاب( {[315]} )

/ وقدر بعضهم الجواب لتأثروا بهذا الالزام وهو خلاف الظاهر ، وجوز أن تكون { لَوْ } لمجرد التمني المنبىء عن امتناع تحقق مدخولها ، وينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم فلا جواب ولا مفعول ويؤول المعنى إلى أنهم ما كانوا من أهل الفطانة والفقه ، ويكون الكلام نظير قوله تعالى : { قل انظروا ماذا في السموات والآرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [ يونس : 101 ] وهو خلاف الظاهر أيضاً .

هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ في الحر قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا } [ التوبة : 81 ] أرادوا التثبيط على المؤمنين ببيان بعض شدائد الغزو وما دروا أن المحب يستعذب المر في طلب وصال محبوبه ويرى الحزن سهلاً والشدائد لذائذ في ذلك ، ولا خير فيمن عاقه الحر والبرد ، ورد عليهم بأنهم آثروا بمخالفتهم النار التي هي أشد حراً ويشبه هؤلاء المنافقين في هذا التثبيط أهل البطالة الذين يثبطون السالكين عن السلوك ببيان شدائد السلوك وفوات اللذائذ الدنيوية


[315]:- "مسرة أحقاب" مبتدأ خبره أريها شبه الصاب، والأحقاب الأزمان الكثيرة واحدها حقب، والأرى العسل، والشبه المثل، والصاب نبت مر وقيل الحنظل.