نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ} (81)

ولما علل سبحانه عدم المغفرة بفسقهم ، وأتى بالظاهر موضع المضمر إشارة إلى اتصافهم به وتعليقاً للحكم بالوصف ، علل رسوخهم في الفسق بعد أن قدم أن المنافقين بعضهم من بعض فهم{[36976]} كالجسد الواحد بقوله : { فرح المخلفون } أي الذين وقع تخليفهم بإذنك لهم وكراهة الله لانبعاثهم { بمقعدهم } أي قعودهم عن غزوة تبوك ، ولعله عبر بهذا المصدر لصلاحيته لموضع القعود ليكون بدلالته{[36977]} على الفرح أعظم دلالة على الفرح بالموضع ، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأظهر الوصف بالتخلف موضع الضمير زيادة في تهجين ما رضوا به لأنفسهم ، وزاده تهجيناً أيضاً بقوله : { خلاف } أي بعد و{[36978]} خلف أو{[36979]} لأجل خلاف { رسول الله } أي الملك الأعظم الذي من تخلف عن حزبه هلك { وكرهوا أن يجاهدوا } .

ولما كان هذا في سياق الأموال تارة بالرضى بنيلها والسخط بحرمانها ، و{[36980]} تارة بقبض اليد عن بذلها ، وتارة بالاستمتاع{[36981]} بالخلاف الذي هو النصيب أعم من أن يكون بالمال أو النفس ، وتارة بعيب الباذلين وغير ذلك من شأنها قدم قوله{[36982]} : { بأموالهم و أنفسهم } على قوله : { في سبيل الله } أي طريق الملك الذي له صفات الكمال ، لأنه ليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإيقان{[36983]} الذي بعث المؤمنين ، ودل ذلك على عراقتهم في الفسق بأن الإنسان قد يفعل المعصية ويحزن على فعلها وهؤلاء سروا بها مع ما فيها من الدناءة ، وقد يسر الإنسان بالمعصية ولا يكره أن يكون بدلها أو معها طاعة وهؤلاء ضموا إلى سرورهم بها كراهية الطاعة ، وقد يكره ولا ينهى غيره وهؤلاء جمعوا إلى ذلك كله نهي غيرهم ، ففعلوا ذلك كله { وقالوا } أي لغيرهم { لا تنفروا في الحر } بعداً من الإسلام وعمّى عن سيد الأحكام ، لأن غزوة تبوك كانت{[36984]} في شدة الحر .

ولما كان هذا قول من لم تخطر الآخرة على باله ، أمره تعالى أن يحذر من يصغي إليهم أو يقبل عليهم بقوله : { قل } أي{[36985]} يا أعلم بخلقنا{[36986]} استجهالاً لهم { نار جهنم } أي التي أعدها الله لمن خالف أمره { أشد حرّاً } ولفت الكلام إلى الغيبة يدل على أن أعظم المراد بهذا الوعظ ضغفاء المؤمنين لئلا يتشبهوا بهم طمعاً في الحلم فقال تعالى : { لو كانوا } أي المنافقون { يفقهون* } أي لو كان بهم فهم يعلمون به صدق الرسول وقدرة مرسله على ما{[36987]} توعد به لعلموا ذلك فما كانوا يفرون من الحر إلى أشد حراً منه ، لأن من فر من حر ساعة إلى حر{[36988]} الأبد كان أجهل الجهال ، وقال أبو حيان{[36989]} : لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه ، يعني {[36990]}في قوله{[36991]} { فرح المخلفون } - انتهى .

فتكون الآية حينئذ جواباً لمن كأنه قال : هذه أحوال من خرج فما حال من قعد ؟ وقد خرج بما{[36992]} في هذه الآية من الأوصاف كعب بن مالك ورفيقاه رضي الله عنهم ونحوهم ممن لم يفرح بالقعود ولا اتصف بما ذكر معه من أوصافهم .


[36976]:في ظ: فهو.
[36977]:من ظ، وفي الأصل: دلالته.
[36978]:زيد من ظ.
[36979]:في ظ: أي.
[36980]:سقط من ظ.
[36981]:في ظ: الاستماع.
[36982]:من ظ، وفي الأصل: له.
[36983]:من ظ، وفي الأصل: الإتقان.
[36984]:زيد من ظ.
[36985]:زيد من ظ.
[36986]:من ظ، وفي الأصل: خلفتنا.
[36987]:سقط من ظ.
[36988]:في ظ: أحر.
[36989]:راجع البحر المحيط 5/78 و79.
[36990]:في ظ: بقوله.
[36991]:في ظ: بقوله.
[36992]:في ظ: ما.