المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ} (81)

هذه آية تتضمن وصف حالهم على جهة التوبيخ لهم وفي ضمنها وعيد ، وقوله { المخلفون } لفظ يقتضي تحقيرهم وأنهم الذين أبعدهم الله من رضاه وهذا أمكن في هذا من أن يقال المتخلفون ، ولم يفرح إلا منافق ، فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر{[5811]} ، و «مقعد » مصدر بمعنى القعود ، ومثله :

من كان مسروراً بمقتل مالك . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5812]}

وقوله { خلاف } معناه بعد وأنشد أبو عبيدة في ذلك : [ الكامل ]

عقب الربيع خِلاَفُهمْ فكأنَّما*** بسط الشواطب بينهنَّ حصير{[5813]}

يريد بعدهم ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى*** تأهَّبْ لأخرى مثلَها فَكَأَنْ قدِ{[5814]}

وقال الطبري هو مصدر خالف يخالف .

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا هو مفعول له ، والمعنى { فرح المخلفون بمقعدهم } لخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مصدر ونصبه في القول الأول كأنه على الظرف ، وكراهيتهم «لما ذكر هي شح إذ لا يؤمنون بالثواب في سبيل الله فهم يظنون بالدنيا ، وقولهم { لا تنفروا في الحر } كان لأن غزوة تبوك كانت في وقت شدة الحر وطيب الثمار والظلال ، قاله ابن عباس وكعب بن مالك والناس ، فأقيمت عليهم الحجة بأن قيل لهم فإذا كنتم تجزعون من حر القيظ فنار جهنم التي هي أشد أحرى أن تجزعوا منها لو فهمتم ، وقرأ ابن عباس وأبو حيوة » خلف «وذكرها يعقوب ولم ينسبها وقرىء » خُلف «بضم الخاء ، ويقوي قول الطبري أن لفظة » الخلاف «هي مصدر من خالف ما تظاهرت به الروايات من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنفر فعصوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين .

وقال محمد بن كعب : قال { لا تنفروا في الحر } رجل من بني سلمة .

وقال ابن عباس : قال رجل يا رسول الله الحر شديد فلا تنفر في الحر ، قال النقاش : وفي قراءة عبد الله » يعلمون «بدل { يفقهون } .


[5811]:-يريد الثلاثة الذي قال الله فيهم في الآية (118) من هذه السورة: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا}، وسيأتي الحديث عنهم:
[5812]:- هذا صدر بيت، وهو بتمامه: من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار وقد سبق أن استشهد المؤلف بهذا البيت وبيت آخر بعده عند تفسير قوله تعالى في الآية (72) من سورة (آل عمران): {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره}.
[5813]:- البيت في (اللسان)، وقد نسبه للحارث بن خالد المخزومي، وذكر أن ابن بري أنشده للتدليل على أن [خلاف] في الآية بمعنى (بعد). والشواطب من النساء: اللواتي يشققن الخوص، ويقشرن العسب ليتخذن منه الحصر ثم يلقينها إلى المنقيات، والمنقية هي التي تأخذ كل شيء على العسيب بسكينها حتى تتركه رقيقا صالحا لعمل الحصر منه.
[5814]:- هذا ثاني بيتين، وأولهما: تمنى أناس أن أموت وإن أمت فتلك طريق لست فيها بأوحد وقد ذكره في اللسان غير منسوب، والرواية فيها (تهيأ) بدلا من (تأهب)، وفي "البحر" (وكأن) بدلا من (فكأن). ومثل هذا البيت والذي قبله قول مُزاحم العقيلي: وقد يفرط الجهل الفتى ثم يرعوي خلاف الصبا للجاهلين حلوم.