محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَرِحَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ بِمَقۡعَدِهِمۡ خِلَٰفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي ٱلۡحَرِّۗ قُلۡ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّٗاۚ لَّوۡ كَانُواْ يَفۡقَهُونَ} (81)

ثم أشار تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين وهو جعلهم الفرح مكان الحزن ، والكراهة مكان الرضا . بقوله سبحانه :

/ [ 81 ] { فرح المخلّفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون 81 } .

{ فرح المخلّفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } المخلفون : هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من المنافقين ، فأذن لهم في التخلف كما قلنا ، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك . وإيثار { المخلّفون } على ( المتخلفون ) ، لأنه صلى الله عليه وسلم منع بعضهم من الخروج ، فغلب على غيرهم . أو المراد من خلفهم كسلبهم أو نفاقهم . أو لأن الشيطان أغراهم بذلك ، وحملهم عليه .

وقوله تعالى : { بمقعدهم } متعلق ب { فرح } ، أي بقعودهم عن غزوة تبوك . ف ( مقعد ) على هذا مصدر ميميّ ، أو هو اسم مكان ، والمراد به المدينة . وقوله : { خلاف رسول الله } أي خلفه ، وبعد خروجه ، حيث خرج ولم يخرجوا . ف { خلاف } ظرف بمعنى خلف وبعد . يقال : فلان أقام خلاف الحيّ أي بعدهم ، ظعنوا ولم يظعن . ويؤيده قراءة من قرأ { خلف رسول الله } فانتصابه على أنه ظرف ل { مقعدهم } ، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك .

قال الشهاب : واستعمال ( خلاف ) بمعنى ( خلف ) لأن جهة الخلف خلاف الأمام ، وجوز أن يكون ( الخلاف ) بمعنى ( المخالفة ) ، فهو مصدر ( خالف ) ، كالقتال . ويعضده قراءة من قرأ { خلف رسول الله } بضم الخاء ، وفي نصبه وجهان :

الأول- أنه مفعول له ، والعامل إما { فرح } أي فرحوا لأجل مخالفته عليه الصلاة والسلام بالقعود . وإما { مقعدهم } أي فرحوا بقعودهم لأجل مخالفته عليه الصلاة والسلام ، فهو علة إما للفرح أو القعود .

/ والثاني أنه حال ، والعامل أحد المذكورين ، أي فرحوا مخالفين له عليه الصلاة والسلام بالقعود ، أو فرحوا بالقعود مخالفين له .

وقوله تعالى : { وكرهوا } الخ أي لما في قلوبهم من مرض النفاق .

قال أبو السعود : وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال : ( وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو ) إيذانا بأن الجهاد في سبيل الله ، مع كونه من أجلّ الرغائب ، وأشرف المطالب ، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الزمخشري : في قوله تعالى : { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } تعريض بالمؤمنين ، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى ، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى ، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض ( أي الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب ) وكره ذلك المنافقون . وكيف لا يكرهونه ؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان ، وداعي الإيقان .

قال الشهاب : ووجه التعريض ظاهر ، لأن المراد كرهوه ، لا كالمؤمنين الذين أحبوه .

وقوله تعالى : { وقالوا لا تنفروا في الحرّ } أي قالوا لإخوانهم لا تنفروا إلى الجهاد في الحر ، فإنه لا يستطاع شدته . وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، وذلك تثبيتا لهم على التخلف ، وتواصيا فيما بينهم بالشر والفساد أو قالوا للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد ، ونهيا عن المعروف ، وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود . فقد جمعوا ثلاث خلال من خصال الكفر والضلال : الفرح بالقعود ، وكراهية الجهاد ، ونهي الغير عن ذلك أفاده أبو السعود- .

وقوله تعالى : { قل } أي ردّا عليهم وتجهيلا لهم { نار جهنم } أي التي ستدخلونها / بما فعلتم { أشد حرا } أي مما تحذرون من الحر المعهود ، وتحذّرون الناس منه ، فما لكم لا تحذرونها ، وتعرضون أنفسكم لها ، بإيثار القعود على النفير .

وقوله تعالى : { لو كانوا يفقهون } اعتراض تذييليّ من جهته تعالى ، غير داخل تحت القول المأمور به ، مؤكد لمضمونه . وجواب ( لو ) إما مقدر ، أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك ، أو كيف هي ؛ أو أن مآلهم إليها- لما فعلوا ما فعلوا ، أو لتأثروا بهذا الإلزام . وإما غير منويّ ، على أن ( لو ) لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها . أي لو كانوا من أهل الفطانة والفقه ، كما في قوله تعالى{[4598]} : { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } كذا في ( أبي السعود ) - .

تنبيهان

الأول- قال الزمخشريّ : قوله تعالى : { قل نار جهنم . . . } الخ ، استجهال لهم ، لأن من تصوّن من مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل . ولبعضهم{[4599]} :

مسرّة أحقاب تلقيت بعدها *** مساءة يوم ، أريها{[4600]} شبه الصاب

فكيف بأن تلقى مسرة ساعة *** وراء تقضّيها مساءة أحقاب

-انتهى- .

/ أي فهم كما قال الآخر :

* كالمستجير من الرمضاء بالنار*

وقال آخر :

عمرك بالحمية أفنيته *** خوفا من البارد والحار

وكان أولى لك أن تتقي *** من المعاصي حذر النار

الثاني – روى الإمام مالك{[4601]} والشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نار بني آدم التي يوقدون بها ، جزء من سبعين جزءا " - زاد الإمام أحمد : " من نار جهنم " .

وروى الشيخان{[4602]} عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة ، لمن له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل . لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه ، وإنه أهونهم عذابا " .


[4598]:[10 / يونس / 101].
[4599]:استشهد به في الكشاف. قال الشارح: قوله (مسرة أحقاب) مبتدأ، خبره (أريها شبه الصّاب) والأحقاب: الأزمان الكثيرة، واحدها: حقب. والأري: العسل. والشبه: المثل. والصاب: نبت مرّ، وقيل: الحنظل. يقول: مسرة أزمان كثيرة، ترى بعدها مساءة يوم، هي في الحقيقة مثل الصاب مرارة. فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وتقع، بسبب تلك المسرة، في مشقة الأبد؟
[4600]:الأري ما لزق بأسفل القدر والعسل. والصاب: شجر مر (قاموس).
[4601]:أخرجه مالك في الموطأ في: 57- كتاب جهنم، حديث رقم 1 (طبعتنا). وأخرجه البخاري في: 59- كتاب بدء الخلق، 10- باب صفة النار وأنها مخلوقة، حديث رقم 1545. وأخرجه مسلم في: 51- كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم 30 (طبعتنا).
[4602]:أخرجه البخاري في: 81- كتاب الرقاق، 51- باب صفة الجنة والنار، حديث 2465. وأخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان، حديث رقم 363 (طبعتنا).