تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذا تمام لجملة ، وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون .

قال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذه مفصولة { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } .

وقال أبو الضحى : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } ثم استأنف الكلام فقال : { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وهكذا قال مسروق ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم .

وقال الأعمش عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } قال : هم ثلاثه أصناف : يعني المصدقين ، والصديقين ، والشهداء ، كما قال [ الله ] {[28283]} تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] ففرق بين الصديقين والشهداء ، فدل على أنهما صنفان . ولا شك أن الصديق أعلى مقامًا من الشهيد ، كما رواه الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله ، في كتابه الموطأ ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم " . قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : " بلى والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " .

اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث مالك ، به{[28284]}

وقال آخرون : بل المراد من قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } فأخبر عن المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون وشهداء . حكاه ابن جرير عن مجاهد ، ثم قال ابن جرير :

حدثني صالح ابن حرب أبو مَعْمَر ، حدثنا إسماعيل بن يحيى ، حدثنا ابن عَجْلان عن زيد بن أسلم ، عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مؤمنو أمتي شهداء " . قال : ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ] } {[28285]} هذا حديث غريب{[28286]}

وقال أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون في قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } قال : يجيؤون يوم القيامة معًا كالإصبعين .

وقوله : { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : في جنات النعيم ، كما جاء في الصحيحين : " إن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : ماذا تريدون ؟ فقالوا : نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قُتِلنا أول مرة . فقال إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون " {[28287]}

وقوله : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي : لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم ، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا يحيى ابن إسحاق ، حدثنا بن لَهِيعَة ، عن عطاء بن دينار ، عن أبي يزيد الخولاني قال : سمعت فضالة بن عُبَيد يقول : سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الشهداء أربعة : رجل مؤمن جيد الإيمان ، لقي العدو فصدق الله فقتل ، فذلك{[28288]} الذي ينظر الناس إليه هكذا - ورفع رأسه حتى سقطت قَلَنْسُوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قلنسوة عمر - والثاني مؤمن {[28289]} لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح ، جاءه سهم غَرْب فقتله ، فذاك في الدرجة الثانية ، والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئًا لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الثالثة ، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافًا كثيرًا ، لقي العدو فصدق الله حتى قتل ، فذاك في الدرجة الرابعة " . {[28290]}

وهكذا رواه علي بن المديني ، عن أبي داود الطيالسي ، عن ابن المبارك ، عن ابن لَهِيعَة ، وقال : هذا إسناد مصري صالح . ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال : حسن غريب{[28291]}

وقوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } لما ذكر السعداء ومآلهم ، عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم .


[28283]:- (1) زيادة من أ.
[28284]:- (2) صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831)
[28285]:- (1) زيادة من م.
[28286]:- (2) تفسير الطبري (27/133).
[28287]:- (3) صحيح مسلم برقم (1887) من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، ولم أقع عليه عند البخاري.
[28288]:- (4) في م: "فذاك".
[28289]:- (5) في أ: "رجل".
[28290]:- (6) المسند (1/23).
[28291]:- (7) سنن الترمذي برقم (1644).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } .

يقول تعالى ذكره : والذين أقرّوا بوحدانية الله وإرساله رسله ، فصدّقوا الرسل وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربهم ، أولئك هم الصّدّيقون .

وقوله : والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : والشهداء عند ربهم منفصل من الذي قبله ، والخبر عن الذين آمنوا بالله ورسله ، متناه عند قوله : الصّدّيقُونَ ، والصدّيقون مرفوعون بقوله : هم ، ثم ابتدىء الخبر عن الشهداء فقيل : والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ، والشهداء في قولهم مرفوعون بقوله : لَهُمْ أجْرَهُمْ وَنُورُهُمْ . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسِلِهِ أُولَئِكَ هُمْ الصّدّيقُونَ قال : هذه مفصولة والشّهَداءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق أُولَئِكَ هُمُ الصّديقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ قال : هي للشهداء خاصة .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : هي خاصة للشهداء .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان عن أبي الضحى أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ ثم استأنف الكلام فقال : والشهداء عند ربهم .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُون هذه مفصولة ، سماهم الله صدّيقين بأنهم آمنوا بالله وصدّقوا رسله ، ثم قال : والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ هذه مفصولة .

وقال آخرون : بل قوله : والشهداء من صفة الذين آمنوا بالله ورسله قالوا : إنما تناهى الخبر عن الذين آمنوا عند قوله : والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ ثم ابتدىء الخبر عما لهم ، فقيل : لهم أجرهم ونورهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرنا أبو قيس أنه سمع هذيلاً يحدّث ، قال : ذكروا الشهداء ، فقال عبد الله : الرجل يقاتل للذكر ، والرجل يقاتل ليرى مكانه ، والرجل يقاتل للدنيا ، والرجل يقاتل للسمعة ، والرجل يقاتل للمغنم قال شعبة شيئا هذا معناه : والرجل يقاتل يريد وجه الله ، والرجل يموت على فراشه وهو شهيد ، وقرأ عبد الله هذه الآية وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، وليث عن مجاهد والّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُم وَنُورُهُمْ قال : كلّ مؤمن شهيد ، ثم قرأها .

حدثني صالح بن حرب أبو معمر ، قال : حدثنا إسماعيل بن يحيى ، قال : حدثنا ابن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن البراء بن عازب ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مُؤْمِنُو أُمّتِي شُهَداءُ » . قال : ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : بالإيمان على أنفسهم بالله .

وقال آخرون : الشهداء عند ربهم في هذا الموضع : النبيون الذين يشهدون على أممهم من قول الله عزّ وجلّ فَكَيْفَ إذَا جِئْنا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا .

والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال : الكلام والخبر عن الذين آمنوا ، متناه عند قوله : أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وإن قوله : والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ خبر مبتدأ عن الشهداء .

وإنما قلنا : إن ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن ذلك هو الأغلب من معانيه في الظاهر ، وأنّ الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد لا بمعنى غيره ، إلا أن يُراد به شهيد على ما آمن به وصدّقه ، فيكون ذلك وجها ، وإن كان فيه بعض البعد ، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه ، إذا أطلق بغير وصل ، فتأويل قوله : والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ إذن والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله ، أو هلكوا في سبيله عند ربهم ، لهم ثواب الله إياهم في الاَخرة ونورهم .

وقوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا وكَذّبُوا بآياتِنا أُولَئِكَ أصحَابُ الجَحِيمِ يقول تعالى ذكره : والذين كفروا بالله وكذّبوا بأدلته وحججه ، أولئك أصحاب الجحيم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء أو هم المبالغون في الصدق فإنهم آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله ورسله والقائمون بالشهادة لله ولهم أو على الأمم يوم القيامة وقيل والشهداء عند ربهم مبتدأ وخبر والمراد به الأنبياء من قوله فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد أو الذين استشهدوا في سبيل الله لهم أجرهم ونورهم مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ولكنه من غير تضعيف ليحل التفاوت أو الأجر والنور الموعودان لهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص والصحبة تدل على الملازمة عرفاء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (19)

ثم ذكر في هذه أهل الصدقة ووعدهم ، ثم ذكر أهل الإيمان والتصديق في قوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } وعلى قراءة من قرأ : «إن المصَدقين » بتخفيف الصاد فذكر المؤمنين مكرر في اللفظ ، وكون الأصناف منفردة بأحكامها من الوعد أبين .

والإيمان بمحمد يقتضي الإيمان بجميع الرسل ، فلذلك قال : { ورسله } . و { الصديقون } بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزجاج ، وفعيل لا يكون فيما أحفظ إلا من فعل ثلاثي ، وقد أشار بعض الناس إلى أنه يجيء من غير الثلاثي . وقال : مسيك من أمسك ، وأقول إنه يقال : مسك الرجل وقد حكى مسك الشيء ، وفي هذا نظر .

وقوله تعالى : { والشهداء عند ربهم } اختلف الناس في تأويل ذلك ، فقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة : { والشهداء } معطوف على قوله : { الصديقون } والكلام متصل . ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال ، فقال بعضها : وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء ، فكل مؤمن شهيد ، قاله مجاهد . وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مؤمنو أمتي شهداء » ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية{[10979]} ، وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفاً ، ولأنهم في أعلى رتب الشهادة ، ألا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به . وقال بعضها : وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء لكن من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد ، وذلك نحو قوله تعالى :

{ وتكونوا شهداء على الناس }{[10980]} [ البقرة : 143 ] فكأنه قال في هذه الآية : هم أهل الصدق والشهادة على الأمم عند ربهم ، وقال ابن عباس ومسروق والضحاك : الكلام تام في قوله : { الصديقون } . وقوله : { والشهداء } ابتداء مستأنف .

ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف ، فقال بعضها معنى الآية : { والشهداء } بأنهم صديقون حاضرون { عند ربهم } . وعنى ب { الشهداء } : الأنبياء عليهم السلام ، فكأن الأنبياء يشهدون للمؤمنين بأنهم صديقون ، وهذا يفسره قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }{[10981]} [ النساء : 41 ] . وقال بعضها قوله : { والشهيد } ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله ، واستأنف الخبر عنهم بأنهم : { عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } فكأنه جعلهم صنفاً مذكوراً وحده ، وفي الحديث : «إن أهل الجنة العليا ليراهم من دونهم كما ترون الكوكب الدري ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما »{[10982]} .

وقوله تعالى : { لهم أجرهم ونورهم } خبر عن الشهداء فقط على الأخير من الأقوال ، وهو خبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية على الأقوال الثلاثة .

وقوله تعالى : { ونورهم } قال جمهور المفسرين : هو حقيقة حسبما روي مما تقدم ذكره في هذه السورة . وقال مجاهد وغيره : هو مجاز عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى التي حصلوا فيها .

ولما فرع ذكر المؤمنين وأهل الكرامة ، عقب ذكر الكفرة المكذبين ليبين الفرق ، فذكرهم تعالى بأنهم { أصحاب الجحيم } وسكانه .


[10979]:أخرجه ابن جرير الطبري عن البراء بن عازب.
[10980]:من الآية(78) من سورة (الحج).
[10981]:من الآية (41) من سورة (النساء).
[10982]:أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، وابن حبان في صحيحه، عن أبي سعيد، وأخرجه الطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة، وابن عساكر عن أبي هريرة وعن أبي عمرو. ورمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بأنه حديث صحيح.