ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة ، فقال : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أي : مهما أمكنكم ، { مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ }
قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ثُمَامة بن شُفَيّ ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " {[13105]}
رواه مسلم ، عن هارون بن معروف ، وأبو داود عن سعيد بن منصور ، وابن ماجة عن يونس بن عبد الأعلى ، ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب ، به{[13106]}
ولهذا الحديث طرق أخر ، عن عقبة بن عامر ، منها ما رواه الترمذي ، من حديث صالح بن كَيْسان ، عن رجل ، عنه{[13107]}
وروى الإمام أحمد وأهل السنن ، عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارموا واركبوا ، وأن ترموا خير من أن تركبوا " {[13108]}
وقال الإمام مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل لثلاثة : لرجل أجْر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ؛ فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج - أو : روضة - فما أصابت في طيلها ذلك من المرج - أو : الروضة - كانت له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقي به ، كان ذلك حسنات له ؛ فهي لذلك الرجل أجر . ورجل ربطها تغنِّيًا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرًا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر " . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : " ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
رواه البخاري - وهذا لفظه - ومسلم ، كلاهما من حديث مالك{[13109]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، أخبرنا شريك ، عن الرُّكَيْن بن الربيع{[13110]} عن القاسم بن حسان ؛ عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للشيطان ، وفرس للإنسان ، فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه وروثه وبوله ، وذكر ما شاء الله . وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه ، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها ، فهي ستر من فقر " {[13111]}
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل ، وذهب الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي ، وقول الجمهور أقوى للحديث ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج وهشام{[13112]} قالا حدثنا ليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة : أن معاوية بن حديج{[13113]} مر على أبي ذر ، وهو قائم عند فرس له ، فسأله ما تعالج من فرسك هذا ؟ فقال : إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته ! قال : وما دعاء بهيمة من البهائم ؟ قال : والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر فيقول : اللهم ، أنت خولتني عبدا من عبادك ، وجعلت رزقي بيده ، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده{[13114]}
قال : وحدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الحميد بن جعفر ؛ حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن سُوَيْد بن قيس ؛ عن معاوية بن حديج{[13115]} ؛ عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر ، يدعو بدعوتين ، يقول : اللهم ، إنك خولتني من خولتني من بني آدم ، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه " أو " أحب أهله وماله إليه " .
رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القطَّان ، به{[13116]}
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التّسْتُرِيّ ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني ، عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال لابن الحنظلية - يعني : سهلا - : حدَّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وأهلها معانون عليها ، ومن ربط فرسًا في سبيل الله كانت النفقة عليه ، كالماد يده بالصدقة لا يقبضها " {[13117]}
والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة ، وفي صحيح البخاري ، عن عُرْوَة ابن أبي الجعد البارقي{[13118]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم " {[13119]}
وقوله : " ترهبون " أي : تخوفون{ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } أي : من الكفار{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ } قال مجاهد : يعني : قريظة ، وقال السدي : فارس ، وقال سفيان الثوري : قال ابن يمان : هم الشياطين التي في الدور . وقد ورد حديث بمثل ذلك ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحِمْصِي ، حدثنا أبو حيوة - يعني : شريح بن يزيد المقرئ - حدثنا سعيد بن سنان ، عن ابن عريب - يعني : يزيد بن عبد الله بن عريب - عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في قوله : { وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ } قال : " هم الجن " {[13120]}
ورواه الطبراني ، عن إبراهيم بن دُحَيْم ؛ عن أبيه ، عن محمد بن شعيب ؛ عن سعيد بن سنان{[13121]} عن يزيد بن عبد الله بن عريب ، به ، وزاد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل " {[13122]}
وهذا الحديث منكر ، لا يصح إسناده ولا متنه .
وقال مقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون .
وهذا أشبه الأقوال ، ويشهد له قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [ التوبة : 101 ] .
وقوله : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ } أي : مهما أنفقتم في الجهاد ، فإنه يوفى إليكم على التمام{[13123]} والكمال ، ولهذا جاء في حديث{[13124]} رواه أبو داود : أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف{[13125]} كما تقدم في قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر ألا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، حتى نزلت : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين . وهذا أيضًا غريب .
{ وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأعدّوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم الذين بينكم وبينهم عهد ، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم أيها المؤمنون بالله ورسوله ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ يقول : ما أطقتم أن تعدّوه لهم من الاَلات التي تكون قوّة لكم عليهم من السلاح والخيل . تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُو اللّهِ وَعَدُوّكُمْ يقول : تخيفون بإعدادكم ذلك عدوّ الله وعدوّكم من المشركين .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو إدريس ، قال : سمعت أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن رجل من جهينة يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ «ألا إنّ الرّمْيَ هُوَ القُوّةُ ، ألاَ إنّ الرّمْيَ هُوَ الْقُوّةُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سعيد بن شرحبيل ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، وعبد الكريم بن الحرث ، عن أبي عليّ الهمدانيّ ، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول : قال الله : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر «قالَ اللّهُ : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّةٍ ألا أنّ القُوّةَ الرّمْيُ ألا إنّ القُوّةَ الرّمْيُ » ثَلاثا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محبوب وجعفر بن عون ووكيع وأبو أسامة وأبو نعيم ، عن أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن رجل ، عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ فقال : «ألا إن القُوةَ الرمْيُ ، ألا إن القُوةَ الرمْيُ » ثلاث مرات .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن رجل ، عن عقبة بن عامر ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاَية على المنبر ، فذكر نحوه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا أسامة بن زيد ، عن صالح بن كيسان ، عن عقبة بن عامر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا أحمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن أخيه محمد بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، عن عقبة بن عامر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قوله : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ «ألا إن القُوةَ الرمْيُ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن شعبة بن دينار ، عن عكرمة ، في قوله : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ قال : الحصون . وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ قال : الإناث .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن رجاء بن أبي سلمة ، قال : لقي رجل مجاهدا بمكة ، ومع مجاهد جُوالَق ، قال : فقال مجاهد : هذا من القوّة ومجاهد يتجهز للغزو .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وأعِدّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ من سلاح .
وأما قوله : تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ فقال ابن وكيع :
حدثنا أبي عن إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : تَرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ قال : تخزون به عدوّ الله وعدوّكم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عثمان ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن عكرمة وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس : تَرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ قال : تخزون به عدوّ الله وعدوّكم . وكذا كان يقرأ بها ترهبون .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة وخصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : تُرْهِبُونَ بِهِ تخزون به .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
يقال منه : أرهبت العدوّ ورهّبته ، فأنا أُرْهِبُه وأُرَهّبُه إرهابا وترهيبا ، وهو الرّهَبُ والرّهْبُ ، ومنه قول طفيل الغنويّ :
وَيْلُ امّ حَيّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُ ***بَنِي كِلابٍ غَدَاةَ الرّعْبِ والرّهَبِ
القول في تأويل قوله تعالى : وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ .
اختلف أهل التأويل في هؤلاء الاَخرين من هم وما هم ، فقال بعضهم : هم بنو قريظة . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ يعني من بني قريظة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ قال : قريظة .
وقال آخرون : من فارس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ هؤلاء أهل فارس .
وقال آخرون : هم كل عدوّ للمسلمين غير الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يشرّد بهم من خلفهم . قالوا : وهم المنافقون . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال : أخفهم بهم لما تصنع بهؤلاء . وقرأ : وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمهُمْ قال : هؤلاء المنافقون لا تعلمونهم لأنهم معكم يقولون لا إله إلا الله ويغزون معكم .
وقال آخرون : هم قوم من الجنّ .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد عدوّه وعدوّهم من المشركين من السلاح والرمي وغير ذلك ورباط الخيل . ولا وجه لأن يقال : عني بالقوّة معنى دون معنى من معاني القوّة ، وقد عمّ الله الأمر بها .
فإن قال قائل : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد بين أن ذلك مراد به الخصوص بقوله : «ألا إن القُوّةَ الرّمْيُ » . قيل له : إن الخبر وإن كان قد جاء بذلك فليس في الخير ما يدلّ على أنه مراد بها الرمي خاصة دون سائر معاني القوّة عليهم ، فإن الرمي أحد معاني القوّة ، لأنه إنما قيل في الخبر : «ألا إنّ القُوّةَ الرّمْيُ » ولم يقل دون غيرها . ومن القوّة أيضا السيف والرمح والحربة ، وكل ما كان معونة على قتال المشركين ، كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم ، هذا مع وهي سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : وآخِرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ فإن قول من قال : عني به الجنّ ، أقرب وأشبه بالصواب لأنه جلّ ثناؤه قد أدخل بقوله : وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّكُمْ الأمر بارتباط الخيل لإرهاب كلّ عدوّ لله وللمؤمنين يعلمونهم ، ولا شكّ أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم ، لعلمهم بأنهم مشركون وأنهم لهم حرب ، ولا معنى لأن يقال : وهم يعلمونهم لهم أعداء ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ولكن معنى ذلك : إن شاء الله ترهبون بارتباطكم أيها المؤمنون الخيل عدوّ الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم لكم لكفرهم بالله ورسوله ، وترهبون بذلك جنسا آخر من غير بني آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم الله يعلمهم دونكم ، لأن بني آدم لا يرونهم . وقيل : إن صهيل الخيل يرهب الجنّ ، وإن الجنّ لا تقرب دارا فيها فرس .
فإن قال قائل : فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه المنافقون ، فما تنكر أن يكون عني بذلك المنافقون ؟ قيل : فإن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم ، وإنما كان يروعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا يستسرّون من الكفر ، وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوّة لإرهاب العدوّ ، فأما من لم يرهبه ذلك فغير داخل في معنى من أمر بإعداد ذلك له المؤمنون ، وقيل : «لا تعلمونهم » ، فاكتفي للعلم بمنصوب واحد في هذا الموضع ، لأنه أريد لا تعرفونهم ، كما قال الشاعر :
فإنّ اللّهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبا ***وأنّا سَوْفَ يَلْقاهُ كِلانا
القول في تأويل قوله تعالى : وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ .
يقول تعالى ذكره : وما أنفقتم أيها المؤمنون من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كراع أو غير ذلك من النفقات في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا ، ويدّخر لكم أجوركم على ذلك عنده ، حتى يوفيكموها يوم القيامة . وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ يقول : يفعل ذلك بكم ربكم فلا يضيع أجوركم عليه .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ومَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفّ إلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ : أي لا يضيع لكم عند الله أجره في الاَخرة وعاجل خلفه في الدنيا .