{ أأمنتم من في السماء . . . } أي أأمنتم من في السماء وهو الله تعالى أن يذهب الأرض إلى سفل ملتبسة بكم . والآية من متشابه القرآن . وقد أجمعت القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه بليس كمثله شيء ؛ وقد أوضح الآلوسي هذا غاية الإيضاح في تفسير هذه الآية . { فإذا هي تمور } تضطرب وتتحرك ، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها إلى أسفل سافلين ، من المور ، وأصله التردد في الذهاب والمجئ . يقال : مار يمور ، تحرك وجاء وذهب .
ثم خوف الكفار ، فقال { أأمنتم من في السماء } قال ابن عباس : أي : عذاب من في السماء إن عصيتموه ، { أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } قال الحسن : تتحرك بأهلها . وقيل : تهوي بهم . والمعنى : أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تلقيهم إلى أسفل ، تعلو عليهم وتمر فوقهم . يقال : مار يمور ، أي : جاء وذهب .
قوله تعالى : " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض " قال ابن عباس : أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه . وقيل : تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته . وخص السماء وإن عم ملكه ، تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظمونه في الأرض . وقيل : هو إشارة إلى الملائكة . وقيل : إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب{[15194]} .
قلت : ويحتمل أن يكون المعنى : أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون . " فإذا هي تمور " أي تذهب وتجيء . والمور : الاضطراب بالذهاب والمجيء . قال الشاعر :
رَمَيْنَ فَأَقْصَدْنَ القلوب ولن ترى *** دَماً مَائِراً إلا جَرَى في الحَيَازِمِ
جمع حيزوم وهو وسط الصدر . وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض فهو المور . وقال المحققون : أمنتم من فوق السماء ، كقوله : " فسيحوا في الأرض{[15195]} " [ التوبة : 2 ] أي فوقها لا بالمماسة والتحيز ، لكن بالقهر والتدبير . وقيل : معناه أمنتم من على السماء ، كقوله تعالى : " ولأصلبنكم في جذوع النخل{[15196]} " [ طه : 71 ] أي عليها . ومعناه أنه مديرها ومالكها ، كما يقال : فلان على العراق والحجاز ، أي واليها وأميرها . والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة ، مشيرة إلى العلو ؛ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند . والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السُّفل والتحت . ووصفه بالعلو والعظمة ، لا بالأماكن والجهات والحدود ، لأنها صفات الأجسام . وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء ، لأن السماء مهبط الوحي ، ومنزل القطر ، ومحل القدس ، ومعدن المطهرين من الملائكة ، وإليها ترفع أعمال العباد ، وفوقها عرشه وجنته ؛ كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة ، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها ، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان . ولا مكان له ولا زمان . وهو الآن على ما عليه كان . وقرأ قنبل عن ابن كثير " النشور وأمنتم " بقلب الهمزة الأولى واوا وتخفيف الثانية . وقرأ الكوفيون والبصريون وأهل الشام سوى أبي عمرو وهشام بالتخفيف في الهمزتين ، وخفف الباقون . وقد تقدم جميعه .
ولما لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار على الخلاف ، قال مهدداً للمكذبين بعذاب دون عذاب جهنم ، منكراً عليهم الأمان ، بعد إقامة الدليل على أن بيده الملك ، وأنه قادر على ما يريد منه بأسباب جنوده {[66955]}وبغير سبب ، مقرراً{[66956]} بعد تقرير حاجة الإنسان وعجزه ، أنه لا حصن له و{[66957]}لا مانع له بوجه من عذاب الله ، فهو دائم الافتقار ملازم للصغار : { أأمنتم } أي أيها المكذبون ، وخاطبهم بما كانوا يعتقدون مع أنه{[66958]} إذا حمل على الرتبة وأول السماء بالعلو ، أو جعل كناية عن التصرف ، لأن العادة جرت غالباً أن من كان في شيء كان متصرفاً فيه ، صح من غير تأويل فقال : { من في السماء } أي على زعمكم ، العالية قاهرة لكم ، أو{[66959]} المعنى : من الملائكة الغلاظ الشداد الذين صرفهم في{[66960]} مصالح العباد{[66961]} ، أو المعنى : في غاية العلو رتبة ، أو أن ذلك إشارة إلى أن في السماء أعظم أمره ، لأنها ترفع إليها أعمال عباده ، وهي مهبط الوحي ، ومنزل القطر ، ومحل القدس والسلطان والكبرياء ، وجهة العرش ، ومعدن المطهرين والمقربين من الملائكة ، الذين أقامهم الله في تصريف أوامره ونواهيه ، والذي دعا إلى مثل هذا التأويل السائغ الماشي على لسان العرب قيام{[66962]} الدليل القطعي على أنه سبحانه ليس بمتحيز في جهة ، لأنه محيط فلا يحاط به ، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج ؛ ثم أبدل من " من " بدل اشتمال فقال : { أن } .
ولما كانت قدرته على ما يريد بلا واسطة كقدرته بالواسطة ، وقدرته إذا كان الواسطة جمعاً كقدرته إذا كان واحداً ، لأن الفاعل على كل تقدير حقيقة هو لا غيره ، وحد بما يقتضيه لفظ " من " إشارة إلى هذا المعنى سواء أريد ب " من " هو سبحانه أو ملائكته أو واحد{[66963]} منهم فقال{[66964]} : { يخسف } أي أأمنتم خسفه ، ويجوز أن يراد ب " من " الله سبحانه وتعالى كما مضى خطاباً على زعمهم وظنهم أنه في السماء ، وإلزاماً لهم بأنه كما قدر على الإمطار والإنبات وغيرهما من التصرفات في الأرض ، فهو يقدر على غيره { بكم الأرض } كما خسف بقارون وغيره .
ولما كان الذي يخسف به من الأرض ، يصير كالساقط في الهواء ، وكان الساقط في الهواء{[66965]} يصير يضطرب{[66966]} ، سبب عن ذلك قوله : { فإذا هي } أي الأرض التي أنتم بها { تمور * } أي تضطرب وهي تهوي بكم وتجري هابطة في الهواء وتتكفأ إلى حيث شاء سبحانه ، قال في القاموس : المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.