السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخۡسِفَ بِكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (16)

ولما كان لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار ، قال تعالى مهدداً للمكذبين : { أأمنتم } قرأ قنبل في الوصل بإبدال الهمزة بعد راء النشور واواً ، وسهل الهمزة الثانية نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه ، وحققها الباقون ، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام ، والباقون بغير إدخال ، وقوله تعالى : { من في السماء } فيه وجوه :

أحدها : من ملكوته في السماء ، لأنها مسكن ملائكته ، وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها ينزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه .

والثاني : أن ذلك على حذف مضاف ، أي : أأمنتم خالق من في السماء .

والثالث : أن في بمعنى على ، أي : على السماء ، كقوله : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } [ طه : 71 ] أي : على جذوع النخل ، وإنما احتاج القائل بهذين الوجهين إلى ذلك ، لأنه اعتقد أن من واقعة على الباري تعالى شأنه ، وهو الظاهر ، وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيز لئلا يلزم التجسيم ، ولا حاجة إلى ذلك ، فإن من هنا المراد بها الملائكة سكان السماء ، وهم الذين يتولون الرحمة والنقمة .

والرابع : أنهم خوطبوا بذلك على اعتقادهم ، فإن القوم كانوا مجسمة مشبهة ، وأنه في السماء ، وأن الرحمة والعذاب نازلان منه ، وكانوا يدعونه من جهتها ، فقيل لهم على حسب اعتقادهم : { أأمنتم من في السماء } أي : من تزعمون أنه في السماء . قال الرازي : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها بإجماع المسلمين ، لأنّ ذلك يقتضي إحاطة السماء به من جميع الجوانب ، فيكون أصغر منها ، والعرش أكبر من السماء بكثير ، فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش وهو باطل بالاتفاق ، ولأنه تعالى قال : { قل لمن ما في السماوات والأرض } [ الأنعام : 12 ] فلو كان فيها لكان مالكاً لنفسه ، فالمعنى : إما من في السماء عذابه ، وإما إن ذلك بحسب ما كانت العرب تعتقده ، وإما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته ، كما قال تعالى : { وهو الله في السماوات وفي الأرض } [ الأنعام : 3 ] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة في مكانين ، والغرض من ذكر السماء ، تفخيم سلطان الله سبحانه وتعظيم قدرته ، والمراد الملك الموكل بالعذاب ، وهو جبريل عليه السلام .

وقوله تعالى : { أن يخسف بكم الأرض } بدل من { من في السماء } بدل اشتمال ، وقال القرطبي : يحتمل أن يكون المعنى : أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون ، وقرأ : { من في السماء أن } نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد الكسرة ياء في الوصل والباقون بتحقيقهما { فإذا هي } أي : الأرض التي أنتم عليها { تمور } أي : تضطرب وهي تهوي بكم وتجري هابطة في الهواء ، وتتكفأ إلى حيث شاء سبحانه ، قال في «القاموس » : المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك ، وقال الرازي : إن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك ، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها يذهبون ، والأرض فوقهم تمور فتقلبهم إلى أسفل السافلين .

وقال القرطبي : قال المحققون : أأمنتم من فوق السماء كقوله تعالى : { فسيحوا في الأرض } [ التوبة : 2 ] ، أي : فوقها لا بالمماسة والتحيز ، بل بالقهر والتدبير ، والأخبار في هذا صحيحة كثيرة ، منتشرة مشيرة إلى العلوّ ، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند ، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ، ووصفه بالعلوّ والعظمة ، لا بالأماكن والجهات والحدود ، لأنها صفات الأجسام ، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء ، لأن السماء مهبط الوحي ، ومنزل القطر ، ومحل القدس ، ومعدن المطهرين من الملائكة ، وإليها ترفع أعمال العباد ، وفوقها عرشه وجنته ، كما جعل الله تعالى الكعبة قبلة للصلاة ، ولأنه تعالى خلق الأمكنة وهو غير متحيز ، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ، ولا مكان له ولا زمان ، وهو الآن على ما عليه كان .