اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخۡسِفَ بِكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (16)

قوله : { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السماء } .

تقدم اختلاف القراء في الهمزتين المفتوحتين نحو { أَأَنذَرْتَهُمْ }[ البقرة : 6 ] تخفيفاً وتحقيقاً وإدخال ألف بينهما وعدمه في سورة «البقرة » .

وأن قنبلاً يقرأ هنا{[57421]} : بإبدال الهمزة الأولى واواً في الوصل «وإليْهِ النشورُ وأمنتُمْ » ، وهو على أصله من تسهيل الثانية بين بين ، وعدم ألف بينهما ، وأما إذا ابتدأ ، فيحقق الأولى ، ويسهل الثانية بين بين على ما تقدم ، ولم تبدل الأولى واواً ، لزوال موجبه وهو انضمام ما قبلها ، وهي مفتوحة نحو «مُوجِل ، ويُؤاخِذكُم » ، وقد مضى في سورة «الأعراف » عند قوله تعالى : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ }[ الأعراف : 123 ] ، وإنما عددناه تذكيراً ، وبياناً .

قوله : { مَّن فِي السماء } . مفعول «أأمِنْتُمْ » وفي الكلام حذف مضاف ، أي : أمنتم خالق السماوات .

وقيل : «فِي » بمعنى «على » ، أي : على السماء ، كقوله :{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل }[ طه : 71 ] ، أي : على جذوع النخل .

وإنما احتاج القائل بهذين إلى ذلك ؛ لأنه اعتقد أن «مَنْ » واقعة على الباري ، وهو الظاهر ، وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيّز لئلا يلزم التجسيم ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ فإن «مَنْ » هنا المراد بها : الملائكة سكان السماءِ ، وهم الذين يتولّون الرحمة والنقمة .

وقيل : خوطبوا بذلك على اعتقادهم ؛ فإن القوم كانوا مجسمة مشبِّهة ، والذي تقدم أحسن .

قال ابن الخطيب{[57422]} : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين ؛ لأن ذلك يقتضي إحاطة السَّماءِ به من جميع الجوانب ، فيكونُ أصغر منها ، والعرش أكبر من السماء بكثير ، فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش ، وهو باطل بالاتفاق ، ولأنه قال : { قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض }[ الأنعام : 12 ] فلو كان فيهما لكان مالكاً لنفسه ، فالمعنى : إما من في السماوات عذابه ، وإما أن ذلك ما كانت العرب تعتقد ، وإما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته ، كما قال تعالى :{ وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض } [ الأنعام : 3 ] فإنَّ الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين ، والغرض من ذكر السَّماءِ تفخيم سلطان الله ، وتعظيم قدرته ، والمراد الملك الموكل بالعذاب ، وهو جبريلُ يخسفها بإذن الله .

قوله : { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض } و { أَن يُرْسِلَ } فيه وجهان :

أحدهما : أنهما بدلان من { مَنْ فِي السماء } بدل اشتمال ، أي : أمنتم خسفه ، وإرساله .

قاله أبو البقاء{[57423]} .

والثاني : أن يكون على حذف «مِنْ » ، أي : أمنتم من الخسف والإرسال ، والأول أظهر .

فصل :

قال القرطبيُّ : ويحتمل أن يكون المعنى : أمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون ، { فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي : تذهب وتجيء ، والمور : الاضطراب بالذهاب والمجيء . قال الشاعر : [ الطويل ]

4801 - رَمَيْنَ فأقْصَدْنَ القُلُوبَ ولَنْ تَرَى***دَماً مَائِراً إلاَّ جرى في الحيَازِمِ{[57424]}

جمع «حيزوم » وهو وسط الصدر .

وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض ، فهو المور .

قال ابن الخطيب : إن الله - تعالى - يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك ، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها ، فيذهبون والأرض فوقهم تمُور ، فتقلبهم إلى أسفل السافلين .

قال القرطبي{[57425]} : قال المحققُون : أمنتم من فوق السَّماء ، كقوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض }[ التوبة : 2 ] أي : فوقها لا بالمماسة والتحيُّز ، لكن بالقهر والتدبير .

وقيل : معناه : أمنتم من على السماء ، كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } ، أي : عليها ، ومعناه أنه مدبرها ومالكها ، كما يقال : فلان على «العراق » ، أي : وليها وأميرها ، والأخبار في هذا صحيحة ، وكثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ ، لا يدفعها إلا ملحد ، أو جاهل أو معاند ، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ، ووصفه بالعلو والعظمة ، لا بالأماكن والجهات والحدود ؛ لأنها صفات الأجسامِ ، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء ؛ لأن السماء مهبط الوحْي ، ومنزل القطر ، ومحل القدس ، ومعدن المطهرين من الملائكة ، وإليها ترفع أعمال العباد ، وفوقها عرشه وجنته ، كما جعل اللَّهُ الكعبة قبلة للصلاة ، فإنه خلق الملائكة وهو غير محتاجٍ إليها ، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ، ولا مكان له ولا زمان ، وهو الآن على ما عليه كان .


[57421]:وهي قراءة ابن كثير كما في: السبعة 644، والحجة 6/305، وإعراب القراءات 2/379، وحجة القراءات 716، والعنوان 194، وشرح شعلة 605، وإتحاف 2/551.
[57422]:ينظر: الفخر الرازي 30/61.
[57423]:ينظر: الإملاء 2/266.
[57424]:ينظر القرطبي 18/141.
[57425]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/141.