{ قوا أنفسكم } بترك المعاصي وفعل الطاعات . { وأهليكم نارا } بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب . أمر من وقى يقي ؛ كضرب يضرب . { عليها ملائكة } أي موكل ملائكة وهم الزبانية{ غلاظ } قساة في أخذهم أهل النار ؛ من الغلظة ضد الرقة . ككرم وضرب . { شداد } أقوياء عليهم . يقال : شديد على فلان ، أي قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب .
{ قوا أنفسكم وأهليكم } : أي اجعلوا لها وقاية بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم .
{ ناراً وقودها الناس والحجارة } : أي توقد بالكفار والأصنام التي تعبد من دون الله ، لا بالحطب ونحوه .
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } هذا نداء الله إلى عباده المؤمنين يعظهم وينصح لهم فيه أن يقوا أنفسهم وأهليهم من زوجة وولد ، ناراً عظيمة ، وقودها أي ما توقد به الناس من المشركين والحجارة التي هي أصنامهم التي كانوا يعبدونها يقون أنفسهم بطاعة الله ورسوله تلك الطاعة التي تزكي أنفسهم وتؤهلهم لدخول الجنة بعد النجاة من النار .
وقوله تعالى { عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } أي على النار قائمون عليها وهم الخزنة التسعة عشرة غلاظ القلوب والطباع شداد البطش إذا بطشوا ولا يعصون الله لا يخالفون أمره ، وينتهون إلى ما يأمرهم به وهو معنى ويفعلون ما يؤمرون .
- وجوب العناية بالزوجة والأولاد وتربيتهم وأمرهم بطاعة الله ورسوله ونهيهم عن ترك ذلك .
{ 6 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }
أي : يا من من الله عليهم بالإيمان ، قوموا بلوازمه وشروطه .
ف { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة ، ووقاية الأنفس بإلزامها أمر الله ، والقيام بأمره امتثالًا ، ونهيه اجتنابًا ، والتوبة عما يسخط الله ويوجب العذاب ، ووقاية الأهل [ والأولاد ] ، بتأديبهم وتعليمهم ، وإجبارهم على أمر الله ، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه ، وفيما يدخل{[1163]} تحت ولايته من الزروجات والأولاد وغيرهم ممن هو تحت ولايته وتصرفه .
ووصف الله النار بهذه الأوصاف ، ليزجر عباده عن التهاون بأمره فقال : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } كما قال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } .
{ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ } أي : غليظة أخلاقهم ، عظيم{[1164]} انتهارهم ، يفزعون بأصواتهم ويخيفون{[1165]} بمرآهم ، ويهينون أصحاب النار بقوتهم ، ويمتثلون{[1166]} فيهم أمر الله ، الذي حتم عليهم العذاب{[1167]} وأوجب عليهم شدة العقاب ، { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وهذا فيه أيضًا مدح للملائكة الكرام ، وانقيادهم لأمر الله ، وطاعتهم له في كل ما أمرهم به .
قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " فيه مسألة واحدة وهي الأمر بوقاية الإنسان نفسه وأهله النار . قال الضحاك : معناه قوا أنفسكم ، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا . وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيهم الله بكم . وقال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد : قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم . ابن العربي : وهو الصحيح ، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل ، كقوله :
علفتها تبنا وماء باردا{[15151]}
ورأيتُ زوجك في الوغى *** متقلدا سيفا ورمحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة ، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية . ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ) . وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله : يأمرهم وينهاهم . وقال بعض العلماء لما قال : " قوا أنفسكم " دخل فيه الأولاد ؛ لأن الولد بعض منه . كما دخل في قوله تعالى : " ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم{[15152]} " [ النور : 61 ] فلم يفردوا بالذكر إفراد سائر القرابات . فيعلمه الحلال والحرام ، ويجنبه المعاصي والآثام ، إلى غير ذلك من الأحكام . وقال عليه السلام : ( حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ ) . وقال عليه السلام : ( ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن ) . وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ( مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ) . خرجه جماعة من أهل الحديث . وهذا لفظ أبي داود . وخرج أيضا عن سمرة بن جندب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها ) . وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب ، مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال . وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول : ( قومي فأوتري يا عائشة ) . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء . رحم الله امرأة قامت من الليل تصلى وأيقظت زوجها فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء ) . ومنه قوله صلي الله عليه وسلم : ( أيقظوا صواحب الحجر ) . ويدخل هذا في عموم قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى{[15153]} " [ المائدة : 2 ] . وذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية : يا رسول الله ، نقي أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا ؟ . فقال : ( تنهونهم عما نهاكم الله وتأمرونهم بما أمر الله ) . وقال مقاتل : ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله وعبيده وإمائه . قال الكيا : فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير ، وما لا يستغنى عنه من الأدب . وهو قوله تعالى : " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها{[15154]} " [ طه : 132 ] . ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : " وأنذر عشيرتك الأقربين{[15155]} " . [ الشعراء : 214 ] . وفي الحديث : ( مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع ) .
قوله تعالى : " وقودها الناس والحجارة " " تقدم في سورة " البقرة " القول فيه{[15156]} . " عليها ملائكة غلاظ شداد " يعني الملائكة الزبانية غلاط القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب ، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب . " شداد " أي شداد الأبدان . وقيل : غلاظ الأقوال شداد الأفعال . وقيل غلاظ في أخذهم أهل النار شداد عليهم . يقال : فلان شديد على فلان ، أي قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب . وقيل : أراد بالغلاظ ضخامة أجسامهم ، وبالشدة القوة . قال ابن عباس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة ، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم . وذكر ابن وهب قال : وحدثنا عبدالرحمن بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم : ( ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب ) .
قوله تعالى : " لا يعصون الله ما أمرهم " أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان . " ويفعلون ما يؤمرون " أي في وقته ، فلا يؤخرونه ولا يقدمونه . وقيل أي لذتهم في امتثال أمر الله ، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة ، ذكره بعض المعتزلة . وعندهم أنه يستحيل التكيف غدا . ولا يخفى معتقد أهل الحق في أن الله يكلف العبد اليوم وغدا ، ولا ينكر التكليف في حق الملائكة . ولله أن يفعل ما يشاء .
ولما أبلغ{[66446]} سبحانه في عتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مع صيانتهن عن التسمية إكراماً له صلى الله عليه وسلم وعلم اتصافهن بهذه الصفات العظيمة على سبيل الرسوخ من دوام صحبته صلى الله عليه وسلم لهن ليكن من جملة{[66447]} أزواجه في الجنة وكان اتصافهن بذلك الذي أداهن إلى السعادة العظمى إنما هو بحسن{[66448]} تأديب أوليائهن لهن وإكمال ذلك الأدب بحسن عشرته صلى الله عليه وسلم وتأدبهن بكريم أخلاقه أثمر ذلك أمر{[66449]} الأمة بالتأسي به في هذه الأخلاق الكاملة والتأسي بأوليائهن في ذلك ليعرفن حق الله وحق الأزواج فيحصل{[66450]} بذلك صلاح ذات البين المثمرات{[66451]} للخير كله فقال تعالى متبعاً{[66452]} لهذه الموعظة الخاصة بموعظة عامة دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقرب فالأقرب { يا أيها } مخاطبة لأدنى الأسنان إشارة إلى أن من فوقهم تأسى{[66453]} من حين دخوله في الإسلام فهو غني عن أمر جديد { الذين آمنوا } أي أقروا بذلك { قوا أنفسكم } أي اجعلوا لها وقاية بالتأسي به صلى الله عليه وسلم في أدبه مع الخلق والخالق في لينه لمن يستحق اللين من الخلق تعظيماً للخالق فعاملوه قبل كل شيء بما يعاملكم به من الأدب ، وكذا كونوا مع بقية الخلق .
ولما كان الإنسان راعياً لأهل بيته مسؤولاً عن رعيته قال تعالى : { وأهليكم } من النساء والأولاد وكل من يدخل في هذا الاسم{[66454]} قوهم { ناراً } بالنصح والتأديب ليكونوا متخلقين بأخلاق أهل النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أحمد{[66455]} والطبراني عن سعيد بن العاص رضي الله عنه رفعه : " ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن " ولما كانت الأشياء لا تعظم في نفسها و{[66456]}عند المخبر بها إلا بإخباره بما يشتمل عليه من الأوصاف قال : { وقودها } أي{[66457]} الذي توقد به { الناس والحجارة } أي ألين الأشياء وأصلبها ، فما بين ذلك{[66458]} هو لها وقود{[66459]} بطريق الأولى .
ولما{[66460]} وصفها بغاية الأدب في الائتمار أتبعه وصف القُوَام فقال معبراً بأداة الاستعلاء دلالة على تمكنهم من التصرف فيها{[66461]} : { عليها ملائكة{[66462]} } أي يكون أمرها على سبيل الاستعلاء{[66463]} فلا تعصيهم شيئاً لتأديب الله لها { غلاظ{[66464]} } أي في{[66465]} الأبدان والقلوب فظاظة على أهلها لاستحقاقهم لذلك بعصيانهم الملك الأعلى .
ولما كان الغلظ قد يكون مع الرخاوة قال : { شداد } أي{[66466]} في كل شيء يحاولونه{[66467]} بالقول{[66468]} والفعل حتى روي أن الواحد منهم يلقي بالدفعة الواحدة في النار من الكفار سبعين ألفاً .
ولما كان المعنى أنهم يوقعون غلظتهم وشدتهم بأهل المعاصي على مقادير استحقاقهم . بين ذلك بما يخلع القلوب لكونه بأمر الله تعالى فقال : { لا يعصون الله } أي الملك الأعلى في وقت من الأوقات { ما أمرهم } أي أوقع الأمر لهم به في زمن ما .
ولما كان المطيع منا قد يخل ببعض المأمور به في ذاته بنقص {[66469]}ركن أو شرط{[66470]} أو وقت لنسيان ، أو نوم ونحوه أو بترك مندوب ونحوه أو ما{[66471]} في معناه بوسوسة أو حديث نفس و{[66472]}نحوه يقصر عن إيقاعه على أعلى الدرجات كما قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجه{[66473]} عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما والطيالسي عن ثوبان رضي الله عنه : " استقيموا ولن تحصوا " قال نافياً لذلك عنهم : { ويفعلون } أي مجددين مع كل أمر على سبيل الاستمرار { ما يؤمرون * } أي ما يقع لهم الأمر به في أي وقت كان من غير نقص{[66474]} ما ، وبني الفعل لما لم يسم فاعله كناية عن سهولة انقيادهم وإشارة إلى أن الذي أمرهم معلوم أنه الله سبحانه وتعالى .