اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ} (6)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } .

«قُوْا » أمر من الوقاية ، فوزنه «عُو » ؛ لأن الفاء حذفت لوقوعها في المضارع بين ياء وكسرة ، وهذا محمول عليه ، واللام حذفت حملاً له على المجزوم ؛ لأن أصله «أوقيوا » ك «اضربوا » فحذفت الواو التي هي فاء لما تقدم ، واستثقلت الضمة على الياء ، فالتقى ساكنانِ ، فحذفت الياء ؛ وضم ما قبل الواو لتصح .

وهذا تعليل البصريين .

ونقل مكي{[57224]} عن الكوفيين : أن الحذف عندهم فرقاً بين المتعدي ، والقاصر ، فحذفت الواو التي هي فاء في «يَقِي ، ويَعِد » لتعديهما ، ولم يحذف من «يَوْجَلُ » لقصوره .

قال : «ويرد عليهم نحو : يَرمِ ، فإنه قاصر ، ومع ذلك فقد حذفوا فاءه » .

قال شهاب الدين{[57225]} : وفي هذا نظر ؛ لأن «يَوْجَلُ » لم تقع فيه الواو بين ياء وكسرة لا ظاهرة ولا مضمرة .

وقلت : ولا مضمرة ، تحرُّزاً من «تَضَع ، ويَسَع ، ويهب » .

وقرأ بعضهم : «وأهْلُوكُمْ »{[57226]} .

وخرجت على العطف على الضَّمير المرفوع ب «قُوْا » ، وجوز ذلك الفصل بالمفعول قال الزمخشريُّ بعد ذكره القراءة وتخريجها : فإن قلت : أليس التقديرُ : «قُوا أنفُسكُمْ وليَقِ أهلوكم أنفسهم » ؟ .

قلت : لا ، ولكن المعطوف في التقدير مقارن للواو ، و «أنْفُسَكُمْ » واقع بعده ، كأنه قيل : قوا أنتم ، وأهلوكم أنفسكم ، لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه ، فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب .

قوله : «ناراً » مفعول ثانٍ ، «وقُودُهَا النَّاسُ » صفة ل «نَاراً » وكذلك «عَليْهَا مَلائكةٌ » ، ويجوز أن يكون الوصف وحده «عَليْهَا » ، و «مَلائِكَةٌ » فاعل به ، ويجوز أن يكون حالاً لتخصيصها بالصفة الأولى ، وكذلك { لاَّ يَعْصُونَ الله } .

وتقدم الخلاف في واو { وَقُودُهَا }[ البقرة : 24 ] ضمًّا وفتحاً في «البقرة » .

فصل في معنى الآية

قال الضحاك{[57227]} : المعنى : قو أنفسكم ؛ وأهلوكم ، فليقوا أنفسهم ناراً{[57228]} .

وروي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر ، والدعاء ، حتى يقيهم الله بكم{[57229]} .

وقال علي - رضي الله عنه - وقتادة ومجاهدٌ : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم{[57230]} .

قال ابن العربي{[57231]} : وهو الصحيحُ ، والفقهُ الذي يعطيه العطفُ الذي يقتضي التشريك بين المعطوف ؛ والمعطوف عليه في معنى الفعل .

كقوله : [ الرجز ]

4788 - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً *** . . . {[57232]}

وكقوله : [ مجزوء الكامل ]

4789 - ورَأيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى***مُتَقلِّداً سَيْفاً ورُمْحا{[57233]}

فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة ، ويصلح أهله صلاح الراعي للرعيَّة .

قال - عليه الصلاة والسلام - :«كُلُّكُمْ راعٍ ، وكُلُّكُمْ مسْئُولٌ عن رعيَّتِهِ ، فالإمامُ الَّذي على النَّاسِ راعٍ وهُوَ مَسْئُولٌ عَنهُمْ ، والرَّجلُ راعٍ على أهْلِ بَيْتهِ وهُوَ مسْئُولٌ عَنْهُمْ »{[57234]} .

قال الحسن في هذه الآية : يأمرهم ، وينهاهم .

وقال بعض العلماء لما قال : «قُو أنفُسَكُمْ » : دخل فيه الأولاد ؛ لأن الولد بعض منه كما دخلوا في قوله تعالى : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [ النور : 61 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : «إنَّ أحلَّ مَا أكلَ الرَّجلُ من كسْبِهِ ، وإنَّ ولدهُ مِنْ كسْبِهِ »{[57235]} فلم يفرد بالذّكر إفراد سائر القرابات ، فيعلمه الحلال والحرام ، ويجنبه المعاصي والآثام إلى غير ذلك من الأحكام .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : «حَقُّ الولدِ على الوالِدِ ، أنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ ، ويُعلِّمهُ الكِتابَةَ ، ويزَوِّجهُ إذا بلَغَ »{[57236]} .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : «مَا نَحَلَ والدٌ ولَداً أفْضَل مِنْ أدبٍ حسنٍ »{[57237]} .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : «مُرُوا أبْناءَكُمْ بالصَّلاة لسَبْعٍ ؛ واضْربُوهُمْ على تَرْكِهَا لعشْرٍ ، وفرِّقُوا بَيْنَهُم في المَضَاجِعِ »{[57238]} .

قال بعض العلماء : ويخبر أهله بوقت الصلاة ، ووجوب الصيام .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : «رَحِمَ اللَّهُ امْرءاً قَامَ مِنْ اللَّيلِ يُصلِّي ، فأيقظَ أهلَهُ ، فإنْ لَمْ تَقُم رشَّ على وجهِهِا المَاءَ ، ورحِمَ اللَّهُ امْرَأةً قَامَتْ في اللَّيْلِ تُصلِّي ، وأيْقَظَتْ زوْجَهَا ، فإنْ لم يَقُمْ رشَّتْ على وجْهِهِ المَاء »{[57239]} .

وذكر القشيريُّ قال : «فلما نزلت هذه الآية ، قال رجلٌ : يا رسول الله ، نقي أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا ؟ .

فقال : " تنهونهم عما نهاكم الله ، وتأمرونهم بما أمر الله " .

وقال مقاتلٌ : ذلك حق عليه في نفسه ، وولده ، وأهله ، وعبيده ، وإمائه .

قال إلكيا : فعلينا تعليم أولادنا ، وأهلينا الدين ، والخير ، وما لا يستغنى عنه من الأدب .

وهو قوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا }[ طه : 132 ] ، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين }[ الشعراء : 14 ] .

وتقدم الكلام على قوله : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } في «البقرة » .

فصل في مخاطبة الله تعالى للمؤمنين

قال ابن الخطيب{[57240]} : فإن قيل : إنه - تعالى - خاطب المشركين في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] ، ثم قال : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك ؟ .

فالجوابُ : أن الفساق ، وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكُفَّار ، فإنهم مع الكُفَّار في دار واحدة ، فقيل للذين آمنوا : «قُوا أنفُسَكُمْ » باجتناب الفسوقِ ومجاورة الذين أعدت لهم هذه النار ، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقِّي عن الارتداد .

قوله : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } .

يعني الزَّبَانية ، غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا ، خلقوا من الغضب ، وحبب إليهم عذاب الخلقِ ، كما حبب لبني آدم الطعام ، والشراب «شِدادٌ » ، أي : شداد الأبدان وقيل : غلاظ الأقوال شدادُ الأفعالِ .

وقيل : «غِلاظٌ » في أخذهم أهل النار «شِدادٌ » عليهم ، يقال : فلان شديد على فلان ، أي : قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب .

وقيل : أغلاظ أجسامهم ضخمة «شِدادٌ » أي : أقوياء .

قال ابن عبَّاس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة{[57241]} .

وقال - عليه الصلاة والسلام - في خزنة جهنم : «مَا بَيْنَ منْكبَيْ أحدهِمْ كَمَا بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْربِ »{[57242]} .

قوله : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ } .

يجوز أن تكون «ما » بمعنى «الذي » ، والعائد محذوف ، أي : «مَا أمَرَهُمُوهُ » ، والأصل : «بِهِ » ، لا يقال : كيف حذف العائد المجرور ، ولم يجر الموصول بمثله ؟ لأنه يطرد حذف هذا الحرف فلم يحذف إلا منصوباً .

وأن تكون مصدرية ، ويكون محلها بدلاً من اسم الله بدل اشتمال ، كأنه قيل : لا يعصون أمره .

وقوله : { وَيَفْعَلُونَ } .

قال الزمخشريُّ{[57243]} : «فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد ؟ .

قلت : لا ؛ لأن الأولى معناها : أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها .

والثانية : معناها أنهم يؤدّون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ، ولا يتوانون فيه » .

وقال القرطبي{[57244]} : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ } أي : لا يخالفونه في أمر من زيادة ، أو نقصان { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } في وقته لا يقدمونه ، ولا يؤخرونه .

وقيل : أي : لذتهم في امتثال أمر اللَّهِ ، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة ، ذكره بعض المعتزلة ، وعندهم أنه يستحيل التكليف غداً ، ولا يخفى معتقد أهل الحقِّ في أن الله يكلف العبد اليوم وغداً ، ولا ينكر التكليف غداً في حق الملائكةِ ، ولله أن يفعل ما يشاء .


[57224]:ينظر: القرطبي 18/127.
[57225]:ينظر: الدر المصون 6/337.
[57226]:ينظر: الكشاف 4/568. قال الزمخشري في قوله تعالى:{قوا أنفسكم وأهليكم نارا}: قرئ وأهلوكم. قال أحمد: ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو، وأنفسكم واقع بعده، كأنه قال: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم، ولكن لما اجتمع ضمير المخاطب والغائبين: غلب ضمير الخطاب على ضمير الغيبة. ثم قال: فإن قلت قوله:{لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} أليس الجملتان في معنى واحد؟ وأجاب بأن معنى الأولى أنهم يلتزمون الأوامر ولا يأتونها...إلخ. قال أحمد: جوابه الأول مفرع على قاعدته الفاسدة في اعتقاد خلود الفساق في جهنم؛ ولعله إنما أورد السؤال ليتكلف عنه بجواب ينفس عما في نفسه مما لا يطيق كتمانه من هذا الباطل نعوذ بالله منه؛ وإلا فالسؤال غير وارد؛ فإنه لا يمتنع أن المؤمن يحذر من عذاب الكافر أن يناله على الإيمان، كقوله في آل عمران خطابا للمؤمنين {واتقوا النار التي أعدت للكافرين، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}. وينظر: البحر المحيط 8/287، والدر المصون 6/337.
[57227]:في أ: الصحابة رضي الله عنهم.
[57228]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6ج375) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر عن الضحاك.
[57229]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/157) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/374) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
[57230]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/157) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/374).
[57231]:ينظر: أحكام القرآن (4/1852).
[57232]:تقدم.
[57233]:تقدم.
[57234]:تقدم.
[57235]:تقدم.
[57236]:ذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" رقم (45191) وعزاه إلى أبي نعيم في الحلية والديلمي في مسند الفردوس.
[57237]:أخرجه من رواية أيوب بن موسى، عن أبيه، عن جده، أحمد في مسنده 4/78، وأخرجه الترمذي في السنن 4/338، كتاب البر، باب: ما جاء في أدب الولد الحديث (1952) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عامر بن أبي عامر الخزاز وهو عامر بن صالح بن رستم الخزاز، وأيوب بن موسى هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص، وهذا عندي حديث مرسل، وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/263، كتاب الأدب، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/18، كتاب الصلاة، باب: وجوب تعلم ما تجزئ به الصلاة.. وذكره السيوطي في جمع الجوامع 1/733، وعزاه لعبد بن حميد البغوي في معجم الصحابة وابن قانع، والعسكري في الأمثال.
[57238]:أخرجه أبو داود بلفظه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في السنن 1/334، كتاب الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة الحديث (495) وبمعناه عن سبرة بن معبد أخرجه: أحمد في المسند 3/404 في مسند سبرة بن معبد رضي الله عنه. وأبو داود في المصدر السابق 1/332، الحديث (494) والترمذي في السنن 2/259، كتاب الصلاة باب متى يؤمر الصبي بالصلاة (299)، الحديث (407)، وقال: (حسن صحيح). وليس عندهم ذكر التفريق في المضاجع. وأخرجه الدارقطني في السنن 1/230، كتاب الصلاة، باب: الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها.
[57239]:أخرجه أحمد من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، في المسند 2/350 ضمن مسند أبي هريرة، وأخرجه أبو داود في السنن 2/73 كتاب الصلاة، باب: قيام الليل الحديث (1308) وأخرج النسائي في المجتبى من السنن 3/205 كتاب قيام الليل، باب: الترغيب في قيام الليل الحديث (1336) وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/309 كتاب صلاة التطوع، باب: تحريض قيام الليل.
[57240]:ينظر: الفخر الرازي 30/42.
[57241]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/128) عن ابن عباس.
[57242]:ينظر المصدر السابق.
[57243]:ينظر الكشاف 4/568.
[57244]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/128.