قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } .
«قُوْا » أمر من الوقاية ، فوزنه «عُو » ؛ لأن الفاء حذفت لوقوعها في المضارع بين ياء وكسرة ، وهذا محمول عليه ، واللام حذفت حملاً له على المجزوم ؛ لأن أصله «أوقيوا » ك «اضربوا » فحذفت الواو التي هي فاء لما تقدم ، واستثقلت الضمة على الياء ، فالتقى ساكنانِ ، فحذفت الياء ؛ وضم ما قبل الواو لتصح .
ونقل مكي{[57224]} عن الكوفيين : أن الحذف عندهم فرقاً بين المتعدي ، والقاصر ، فحذفت الواو التي هي فاء في «يَقِي ، ويَعِد » لتعديهما ، ولم يحذف من «يَوْجَلُ » لقصوره .
قال : «ويرد عليهم نحو : يَرمِ ، فإنه قاصر ، ومع ذلك فقد حذفوا فاءه » .
قال شهاب الدين{[57225]} : وفي هذا نظر ؛ لأن «يَوْجَلُ » لم تقع فيه الواو بين ياء وكسرة لا ظاهرة ولا مضمرة .
وقلت : ولا مضمرة ، تحرُّزاً من «تَضَع ، ويَسَع ، ويهب » .
وقرأ بعضهم : «وأهْلُوكُمْ »{[57226]} .
وخرجت على العطف على الضَّمير المرفوع ب «قُوْا » ، وجوز ذلك الفصل بالمفعول قال الزمخشريُّ بعد ذكره القراءة وتخريجها : فإن قلت : أليس التقديرُ : «قُوا أنفُسكُمْ وليَقِ أهلوكم أنفسهم » ؟ .
قلت : لا ، ولكن المعطوف في التقدير مقارن للواو ، و «أنْفُسَكُمْ » واقع بعده ، كأنه قيل : قوا أنتم ، وأهلوكم أنفسكم ، لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه ، فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب .
قوله : «ناراً » مفعول ثانٍ ، «وقُودُهَا النَّاسُ » صفة ل «نَاراً » وكذلك «عَليْهَا مَلائكةٌ » ، ويجوز أن يكون الوصف وحده «عَليْهَا » ، و «مَلائِكَةٌ » فاعل به ، ويجوز أن يكون حالاً لتخصيصها بالصفة الأولى ، وكذلك { لاَّ يَعْصُونَ الله } .
وتقدم الخلاف في واو { وَقُودُهَا }[ البقرة : 24 ] ضمًّا وفتحاً في «البقرة » .
قال الضحاك{[57227]} : المعنى : قو أنفسكم ؛ وأهلوكم ، فليقوا أنفسهم ناراً{[57228]} .
وروي عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر ، والدعاء ، حتى يقيهم الله بكم{[57229]} .
وقال علي - رضي الله عنه - وقتادة ومجاهدٌ : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم{[57230]} .
قال ابن العربي{[57231]} : وهو الصحيحُ ، والفقهُ الذي يعطيه العطفُ الذي يقتضي التشريك بين المعطوف ؛ والمعطوف عليه في معنى الفعل .
4788 - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً *** . . . {[57232]}
4789 - ورَأيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى***مُتَقلِّداً سَيْفاً ورُمْحا{[57233]}
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة ، ويصلح أهله صلاح الراعي للرعيَّة .
قال - عليه الصلاة والسلام - :«كُلُّكُمْ راعٍ ، وكُلُّكُمْ مسْئُولٌ عن رعيَّتِهِ ، فالإمامُ الَّذي على النَّاسِ راعٍ وهُوَ مَسْئُولٌ عَنهُمْ ، والرَّجلُ راعٍ على أهْلِ بَيْتهِ وهُوَ مسْئُولٌ عَنْهُمْ »{[57234]} .
قال الحسن في هذه الآية : يأمرهم ، وينهاهم .
وقال بعض العلماء لما قال : «قُو أنفُسَكُمْ » : دخل فيه الأولاد ؛ لأن الولد بعض منه كما دخلوا في قوله تعالى : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [ النور : 61 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : «إنَّ أحلَّ مَا أكلَ الرَّجلُ من كسْبِهِ ، وإنَّ ولدهُ مِنْ كسْبِهِ »{[57235]} فلم يفرد بالذّكر إفراد سائر القرابات ، فيعلمه الحلال والحرام ، ويجنبه المعاصي والآثام إلى غير ذلك من الأحكام .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : «حَقُّ الولدِ على الوالِدِ ، أنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ ، ويُعلِّمهُ الكِتابَةَ ، ويزَوِّجهُ إذا بلَغَ »{[57236]} .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : «مَا نَحَلَ والدٌ ولَداً أفْضَل مِنْ أدبٍ حسنٍ »{[57237]} .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : «مُرُوا أبْناءَكُمْ بالصَّلاة لسَبْعٍ ؛ واضْربُوهُمْ على تَرْكِهَا لعشْرٍ ، وفرِّقُوا بَيْنَهُم في المَضَاجِعِ »{[57238]} .
قال بعض العلماء : ويخبر أهله بوقت الصلاة ، ووجوب الصيام .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : «رَحِمَ اللَّهُ امْرءاً قَامَ مِنْ اللَّيلِ يُصلِّي ، فأيقظَ أهلَهُ ، فإنْ لَمْ تَقُم رشَّ على وجهِهِا المَاءَ ، ورحِمَ اللَّهُ امْرَأةً قَامَتْ في اللَّيْلِ تُصلِّي ، وأيْقَظَتْ زوْجَهَا ، فإنْ لم يَقُمْ رشَّتْ على وجْهِهِ المَاء »{[57239]} .
وذكر القشيريُّ قال : «فلما نزلت هذه الآية ، قال رجلٌ : يا رسول الله ، نقي أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا ؟ .
فقال : " تنهونهم عما نهاكم الله ، وتأمرونهم بما أمر الله " .
وقال مقاتلٌ : ذلك حق عليه في نفسه ، وولده ، وأهله ، وعبيده ، وإمائه .
قال إلكيا : فعلينا تعليم أولادنا ، وأهلينا الدين ، والخير ، وما لا يستغنى عنه من الأدب .
وهو قوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا }[ طه : 132 ] ، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين }[ الشعراء : 14 ] .
وتقدم الكلام على قوله : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } في «البقرة » .
فصل في مخاطبة الله تعالى للمؤمنين
قال ابن الخطيب{[57240]} : فإن قيل : إنه - تعالى - خاطب المشركين في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] ، ثم قال : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك ؟ .
فالجوابُ : أن الفساق ، وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكُفَّار ، فإنهم مع الكُفَّار في دار واحدة ، فقيل للذين آمنوا : «قُوا أنفُسَكُمْ » باجتناب الفسوقِ ومجاورة الذين أعدت لهم هذه النار ، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقِّي عن الارتداد .
قوله : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } .
يعني الزَّبَانية ، غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا ، خلقوا من الغضب ، وحبب إليهم عذاب الخلقِ ، كما حبب لبني آدم الطعام ، والشراب «شِدادٌ » ، أي : شداد الأبدان وقيل : غلاظ الأقوال شدادُ الأفعالِ .
وقيل : «غِلاظٌ » في أخذهم أهل النار «شِدادٌ » عليهم ، يقال : فلان شديد على فلان ، أي : قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب .
وقيل : أغلاظ أجسامهم ضخمة «شِدادٌ » أي : أقوياء .
قال ابن عبَّاس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة{[57241]} .
وقال - عليه الصلاة والسلام - في خزنة جهنم : «مَا بَيْنَ منْكبَيْ أحدهِمْ كَمَا بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْربِ »{[57242]} .
قوله : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ } .
يجوز أن تكون «ما » بمعنى «الذي » ، والعائد محذوف ، أي : «مَا أمَرَهُمُوهُ » ، والأصل : «بِهِ » ، لا يقال : كيف حذف العائد المجرور ، ولم يجر الموصول بمثله ؟ لأنه يطرد حذف هذا الحرف فلم يحذف إلا منصوباً .
وأن تكون مصدرية ، ويكون محلها بدلاً من اسم الله بدل اشتمال ، كأنه قيل : لا يعصون أمره .
قال الزمخشريُّ{[57243]} : «فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد ؟ .
قلت : لا ؛ لأن الأولى معناها : أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها .
والثانية : معناها أنهم يؤدّون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ، ولا يتوانون فيه » .
وقال القرطبي{[57244]} : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ } أي : لا يخالفونه في أمر من زيادة ، أو نقصان { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } في وقته لا يقدمونه ، ولا يؤخرونه .
وقيل : أي : لذتهم في امتثال أمر اللَّهِ ، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة ، ذكره بعض المعتزلة ، وعندهم أنه يستحيل التكليف غداً ، ولا يخفى معتقد أهل الحقِّ في أن الله يكلف العبد اليوم وغداً ، ولا ينكر التكليف غداً في حق الملائكةِ ، ولله أن يفعل ما يشاء .