الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ} (6)

{ قُواْ أَنفُسَكُمْ } بترك المعاصي وفعل الطاعات { وَأَهْلِيكُمْ } بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم . وفي الحديث : " رحم الله رجلاً قال يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعلّ الله يجمعهم معه في الجنة " وقيل : إنّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله . وقرىء : «وأهلوكم » ، عطفاً على واو { قوا } وحسن العطف للفاصل .

فإن قلت : أليس التقدير : قوا أنفسكم ، وليق أهلوكم أنفسهم ؟ قلت : لا ، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو ، وأنفسكم واقع بعده ، فكأنه قيل : قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه ، فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب { نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } نوعاً من النار لا يتقد إلا بالناس والحجارة ، كما يتقد غيرها من النيران بالحطب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي حجارة الكبريت ، وهي أشدّ الأشياء حراً إذا أوقد عليها . وقرىء : «وقودها » بالضم ، أي ذو وقودها { عليها } يلي أمرها وتعذيب أهلها { ملائكة } يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم { غِلاَظٌ شِدَادٌ } في أجرامهم غلظة وشدّة ، أي : جفاء وقوّة . أو في أفعالهم جفاء وخشونة ، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له والانتقام من أعدائه { مَا أَمَرَهُمْ } في محل النصب على البدل ، أي : لا يعصون ما أمر الله . أي : أمره ، كقوله تعالى : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } [ طه : 93 ] أو لا يعصونه فيما أمرهم .

فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد ؟ قلت : لا ، فإنّ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثافلون عنه ولا يتوانون فيه .

فإن قلت : قد خاطب الله المشركين المكذبين بالوحي بهذا بعينه في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التى وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] وقال : { أُعِدَّتْ للكافرين } [ البقرة : 24 ] فجعلها معدّة للكافرين ، فما معنى مخاطبته به بالمؤمنين ؟ قلت : الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار ، فإنهم مساكنون الكفار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا : قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الكفار الذين أعدت لهم هذه النار الموصوفة . ويجوز أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد ، والندم على الدخول في الإسلام ، وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون ؛ ويعضد ذلك قوله تعالى على أثره .