الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ} (6)

قوله : { قُواْ أَنفُسَكُمْ } : أمرٌ من الوِقايةِ فوزنُه " عُوا " لأن الفاءَ حُذِفَتْ لوقوعِها في المضارع بين ياءٍ وكسرةٍ ، وهذا محمولٌ عليه ، واللامُ حُذِفَتْ حَمْلاً له على المجزوم ، بيانه أنَّ أصلَه اِوْقِيُوا كاضْرِبوا فحُذِفَتِ الواوُ التي هي فاءٌ لِما تقدَّمَ ، واستثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَتْ ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الياءُ وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ . وهذا تعليلُ البَصْريين . ونقل مكيٌّ عن الكوفيين : أنَّ الحذفَ عندهم فرقاً بين المتعدي والقاصر فحُذِفت الواوُ التي هي فاءٌ في يَقي ويَعِدُ لتعدِّيهما ، ولم تُحْذَفْ من يَوْجَل لقُصوره . قال : " ويَرِدُ عليهم نحو : يَرِمُ فإنه قاصرٌ ومع ذلك فقد حذفوا فاءَه " . قلت : وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّ يَوْجَل لم تَقَعْ فيه الواوُ بين ياءٍ وكسرةٍ لا ظاهرةٍ ولا مضمرةٍ . فقلت : " ولا مضمرة " تحرُّزاً مِنْ يَضَعُ ويَسَعُ ويَهَبُ .

و " ناراً " مفعولٌ ثانٍ . و { وَقُودُهَا النَّاسُ } صفةٌ ل " ناراً " وكذلك " عليها ملائكةٌ " . ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه عليها و " ملائكةٌ " فاعلٌ به . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفة الأولى وكذلك { لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ } .

وقرأ بعضُهم " وأَهْلوكم " وخُرِّجَتْ على العطفِ على الضمير المرفوع ب " قُوا " وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالمفعولِ . قال الزمخشري بعد ذِكْرِهِ القراءةَ وتخريجَها : " فإنْ قلتَ : أليس التقديرُ : قُوا أنفسَكم ، ولْيَقِ أَهْلوكم أنفسكم ؟ قلت : لا . ولكن المعطوفَ في التقديرِ مقارنٌ للواو ، و " أنفسَكم " واقعٌ بعده كأنَّه قيل : قُوا أنتم وأهلوكم أنفسَكم لمَّا جَمَعْتَ مع المخاطبِ الغائبَ غَلَّبْته [ عليه ] فجعَلْتَ ضميرَهما معاً على لفظِ المخاطبِ " . وتقدَّم الخلافُ في واو " وقود " ضماً وفتحاً في البقرة .

قوله : { مَآ أَمَرَهُمْ } يجوز أَنْ تكونَ " ما " بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي ما أَمَرَهموه ، والأصلُ : به . لا يُقال : كيف حَذَفَ العائدَ المجرورَ ولم يَجُرَّ الموصولَ بمثله ؟ لأنه يَطَّردُ حَذْفُ هذا الحرفِ فلم يُحْذَفْ إلاَّ منصوباً ، وأن تكونَ مصدريةً ، ويكونَ مَحَلُّها بدلاً من اسمِ الله بدلَ اشتمالٍ ، كأنه قيل : لا يَعْصُون أَمْرَه .

وقوله : { وَيَفْعَلُونَ } قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : أليسَتْ الجملتان في معنى واحدٍ ؟ قلت : لا ؛ لأن الأولى معناها : أنهم يتقبَّلون أوامرَه ويلتزمونها ، والثانيةَ معناها : أنهم يُؤَدُّون ما يؤمرون به ، لا يتثاقلون عنه ولا يَتَوانَوْن فيه " .