السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ} (6)

ولما بالغ سبحانه في عتاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع صيانتهن عن التشبه إكراماً له صلى الله عليه وسلم أتبع ذلك أمر الأمة بالتأسي به في هذه الأخلاق الكاملة فقال تعالى متبعاً لهن بالموعظة الخاصة بموعظة عامة دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقرب فالأقرب : { يا أيها الذين آمنوا } أي : أقروا بذلك { قوا أنفسكم } أي : اجعلوا لها وقاية بالتأسي به صلى الله عليه وسلم وترك المعاصي وفعل الطاعات ، وفي أدبه مع الخلق والخالق { وأهليكم } من النساء والأولاد وكل من يدخل في هذا الاسم قوهم { ناراً } بالنصح والتأديب ليكونوا متخلقين بأخلاق أهل النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الطبراني عن سعيد بن العاص : «ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن » وفي الحديث : «رحم الله رجلاً قال : يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معهم في الجنة » وقيل : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله ، وقال صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله ، فإن لم تقم رش على وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي وأيقظت زوجها ، فإن لم يقم رشت على وجهه من الماء » وقال بعض العلماء : لما قال { قوا أنفسكم } دخل فيه الأولاد لأن الولد بعض منه ، كما دخلوا في قوله تعالى : { ولا على أنفسكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم } [ النور : 61 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : «إن أحل ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه » فلم يفرد بالذكر أفراد سائر القرابات فيعلمه الحلال والحرام . وقال عليه الصلاة والسلام : «حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ، ويعلمه الكتابة ، ويزوجه إذا بلغ » .

ثم بين تعالى وصف تلك النار بقوله عز وجل : { وقودها } أي : الذي توقد به { الناس } أي : الكفار { والحجارة } كأصنامهم منها ، وعن ابن عباس أنها حجارة الكبريت ، وهي أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها ، والمعنى أنها مفرطة الحرارة تتقد بما ذكر لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه { عليها ملائكة } خزنتها عدتهم تسعة عشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المدثر { غلاظ } أي : غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب ، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني أدم أكل الطعام والشراب { شداد } أي : شداد الأبدان ، وقيل : غلاظ الأقوال شداد الأفعال يدفع واحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً في النار ، لم يخلق الله فيهم الرحمة ، وقيل : في أخذهم أهل النار شداد عليهم ، يقال : فلان شديد على فلان ، أي : قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب .

وقيل : غلاظ أجسامهم ضخمة شداد ، أي : الأقوياء . قال ابن عباس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة ، وقال صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم : «ما بين منكبي كل واحد منهم كما بين المشرق والمغرب » { لا يعصون الله } أي : الملك الأعلى في وقت من الأوقات ، وقوله تعالى : { ما أمرهم } بدل من الجلالة أي : لا يعصون أمر الله ، وقوله تعالى : { ويفعلون ما يؤمرون } تأكيد ؛ هذا ما جرى عليه الجلال المحلي . وقال الزمخشري : فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد ؟ قلت : لا فإن معنى الأولى أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ، ولا يتوانون فيه . وقيل : لا يعصون الله ما أمرهم الله فيما مضى ويفعلون ما يؤمرون فيما يستقبل ، وصدر بهذا البيضاوي .

فإن قيل : إنه تعالى خاطب المشركين في قوله تعالى : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } [ البقرة : 24 ] فجعلها معدة للكافرين فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك ؟ أجيب : بأن الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار فإنهم مع الكفار في دار واحدة ، فقيل للذين آمنوا : { قوا أنفسكم } باجتناب الفسوق مساكنة الذين أعدت لهم هذه الدار الموصوفة ، ويجوز أن يأمرهم بالتوقي عن الارتداد والندم على الدخول في الإسلام ، وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون .