ثم أمر المؤمنين أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إليه بإخلاص ، عسى الله أن يمحُوَ عنهم سيئاتِهم ويدخلَهم جناتٍ تجري من تحتِ قصورها وأشجارِها الأنهار . وفي ذلك اليوم يرفعُ الله شأنَ النبيّ والذين آمنوا معه ، نورُهم يسعى بين أيدِيهم حينَ يمشون ، وبأيمانِهم حين الحساب . . . حيث يتناولون كُتبَهم بأيمانهم وفيه نورٌ وخير لهم .
{ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . اللهم أجبْ دعاءنا ولا تخيّب رجاءنا .
{ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً } قرأ الحسن ، وأبو بكر عن عاصم : { نصوحاً } بضم النون ، وقرأ العامة بفتحها ، أي : توبة ذات نصح تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه . واختلفوا في معناها قال عمر ، وأبي ، ومعاذ ، التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع . قال الحسن : هي أن يكون العبد نادما على ما مضى ، مجمعا على ألا يعود فيه . قال الكلبي : أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن . قال سعيد بن المسيب : توبة تنصحون بها أنفسكم . قال القرظي : يجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، والإقلاع بالأبدان ، وإضمار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيئ الإخوان . { عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } أي لا يعذبهم الله بدخول النار ، { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } على الصراط ، { يقولون } إذا طفئ نور المنافقين ، { ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير . يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير }
وقوله { توبة نصوحا } هي التوبة التي تنصح صاحبها حتى لا يعود الى ما تاب منه ونصوحا معناه بالغة في النصح وقوله { لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } أي لا يفضحهم ولا يهلكهم { نورهم } على الصراط { يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } اذا أطفىء نور المنافقين دعوا الله وسألوه أن يتم لهم النور
قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله " أمر بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان . وقد تقدم بيانها والقول فيها في " النساء " وغيرها{[15158]} . " توبة نصوحا " اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولا ، فقيل : هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، وروي عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم . ورفعه معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة : النصوح الصادقة الناصحة . وقيل الخالصة ، يقال : نصح أي أخلص له القول . وقال الحسن : النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره . وقيل : هي التي لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها . وقيل : هي التي لا يحتاج معها إلى توبة .
وقال الكلبي : التوبة النصوح الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع عن الذنب ، والاطمئنان على أنه لا يعود . وقال سعيد بن جبير : هي التوبة المقبولة ، ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط : خوف ألا تقبل ، ورجاء أن تقبل ، وإدمان الطاعات . وقال سعيد بن المسيب : توبة تنصحون بها أنفسكم . وقال القرظي : يجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، وإقلاع بالأبدان ، وإضمار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيء الخلان . وقال سفيان الثوري : علامة التوبة النصوح أربعة : القِلة والعِلة والذلة والغربة . وقال الفضيل بن عياض : هو أن يكون الذنب بين عينيه ، فلا يزال كأنه ينظر إليه . ونحوه عن ابن السماك : أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك . وقال أبو بكر الوراق : هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت ، وتضيق عليك نفسك ، كالثلاثة الذين خلفوا{[15159]} . وقال أبو بكر الواسطي : هي توبة لا لفقد عوض ؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة ، فتوبته على حفظ نفسه لا لله . وقال أبو بكر الدقاق المصري : التوبة النصوح هي رد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وإدمان الطاعات . وقال رويم : هو أن تكون لله وجها بلا قفا ، كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه . وقال ذو النون : علامة التوبة النصوح ثلاث : قلة الكلام ، وقلة الطعام ، وقلة المنام . وقال شقيق : هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة ، ولا ينفك من الندامة ؛ لينجو من آفاتها بالسلامة . وقال سري السقطي : لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين ؛ لأن من صحب توبته أحب أن يكون الناس مثله . وقال الجنيد : التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدا ؛ لأن من صحت توبته صار محبا لله ، ومن أحب الله نسي ما دون الله . وقال ذو الأذنين{[15160]} : هو أن يكون لصاحبها دمع مسفوح ، وقلب عن المعاصي جموح . وقال فتح الموصلي : علامتها ثلاث : مخالفة الهوى ، وكثرة البكاء ، ومكابدة الجوع والظمأ . وقال سهل بن عبدالله التستري : هي التوبة لأهل السنة والجماعة ؛ لأن المبتدع لا توبة له ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : ( حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب ) . وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه .
وأصل التوبة النصوح من الخلوص ، يقال : هذا عسل ناصح إذا خلص من الشمع . وقيل : هي مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة . وفي أخذها منها وجهان : أحدهما : لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته ويوثقه . والثاني : لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم ، كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض . وقراءة العامة " نصوحا " بفتح النون ، على نعت التوبة ، مثل امرأة صبور ، أي توبة بالغة في النصح . وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بالضم ، وتأويله على هذه القراءة : توبة نصح لأنفسكم . وقيل : يجوز أن يكون " نصوحا " ، جمع نصح ، وإن يكون مصدرا ، يقال : نصح نصاحة ونصوحا . وقد يتفق فعالة وفعول في المصادر ، نحو الذهاب والذهوب . وقال المبرد : أراد توبة ذات نصح ، يقال : نصحت نصحا ونصاحة ونصوحا .
في الأشياء التي يتاب منها وكيف التوبة منها . قال العلماء : الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو ، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين . فإن كان حقا لله كترك صلاة فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها . وهكذا إن كان ترك صوم أو تفريطا في الزكاة . وإن كان ذلك قتل نفس بغير حق فأن يمكن من القصاص إن كان عليه وكان مطلوبا به . وإن كان قذفا يوجب الحد فيبذل ظهره للجلد إن كان مطلوبا به . فإن عفي عنه كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص . وكذلك إن عفي عنه في القتل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجدا له ، قال الله تعالى : " فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان{[15161]} " [ البقرة : 178 ] . وإن كان ذلك حدا من حدود الله كائنا ما كان فإنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح سقط عنه . وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم . وفي ذلك دليل على أنها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم ، حسب ما تقدم بيانه{[15162]} . وكذلك الشراب والسراق والزناة إذا أصلحوا وتابوا وعرف ذلك منهم ، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم . وإن رفعوا إليه فقالوا : تبنا ، لم يتركوا ، وهم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غلبوا . هذا مذهب الشافعي . فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه - عينا كان أو غيره - إن كان قادرا عليه ، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه . وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى ، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه ، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له ، فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه . وإن أرسل من يسأل ذلك له ، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه - عرفه بعينه أو لم يعرفه - فذلك صحيح . وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزعه بغير حق ، أو غمه أو لطمه ، أو صفعه بغير حق ، أو ضربه بسوط فآلمه ، ثم جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه ، عازما على ألا يعود ، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه فعفا عنه ، سقط عنه ذلك الذنب . وهكذا إن كان شانه بشتم لا حد فيه .
قوله تعالى : " عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم " " عسى " من الله واجبة . وهو معنى قوله عليه السلام : ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) . و " أن " في موضع رفع اسم عسى{[15163]} .
قوله تعالى : " ويدخلكم " معطوف على " يكفر " . وقرأ ابن أبي عبلة " ويدخلكم " مجزوما عطفا على محل عسى أن يكفر . كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار . " يوم لا يخزي الله النبي " العامل في " يوم " : " يدخلكم " أو فعل مضمر . ومعنى " يخزي " هنا يعذب ، أي لا يعذبه ولا يعذب الذين آمنوا معه . " نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم " " تقدم في سورة " الحديد{[15164]} " . " يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير " قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين ، حسب ما تقدم بيانه في سورة " الحديد{[15165]} " .
ولما أفهم الأمر بالوقاية والمدح للملائكة أن المأمورين بالوقاية مقصرون قال مرشداً إلى داوء التقصير : { يا أيها الذين آمنوا } ناداهم بما هو أليق بهم من أداة البعد { توبوا } أي ارجعوا رجوعاً تاماً { إلى الله } أي الملك الذي لا كفوء له .
ولما كان كل فعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث قال : { توبة نصوحاً } أي بالغة في كونها ناصحة{[66483]} عن الإسناد المجازي أي منصوحاً فيها بالإخلاص في الأزمان الثلاثة ، الماضي بالندم ، والحال بالإقلاع . والمستقبل بالعزم على عدم العود إلى الذنب ، فلا يقع فيها رجوع كما لا يعود الحليب إلى الضرع ، فلا يؤذي أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أذى رسوله من أذاه ، قال القرطبي : النصوح مجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، والإقلاع بالأبدان ، وإضمار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيىء الإخوان ، وقال رويم الراعي : هي أن تكون لله وجهاً بلا قفا كما كنت له عند المعصية قفاء بلا وجه .
ولما أمر بالتوبة عللها بما يفيد الإطماع من الإقامة بين الرجاء والخوف إعلاماً بأن هذا المقام هو المنجي لأنه اعتقاد الكمال له سبحانه وهو أن{[66484]} له أن يفعل ما يشاء في المطيع وغيره بقوله : { عسى ربكم } أي{[66485]} افعلوا ذلك ليكون المحسن إليكم بهذا البيان جديراً أو حقيقاً { أن يكفر } أي{[66486]} يغطي تغطية عظيمة { عنكم } أي بالتوبة ، وإذا كان التائب على خطر فما ظنك بالمصر {[66487]}على ذنوبه{[66488]} { سيئاتكم } أي ما{[66489]} بدا منكم ما يسوءه .
ولما ذكر نفع التوبة في دفع{[66490]} المضار ، ذكر نفعها في جلب المسار فقال : { ويدخلكم } أي{[66491]} يوم الفصل { جنات } أي بساتين كثيرة الأشجار تستر داخلها لأنها { تجري } .
ولما كان ذلك الجري في بعض أرضها قال معبراً بأداة التبعيض : { من تحتها } أي تحت غرفها وأشجارها { الأنهار } {[66492]}فهي لا{[66493]} تزال ريا .
ولما ذكر الغفران والإكرام . ذكر وقته فقال مبشراً لأهله{[66494]} معرضاً لغيرهم{[66495]} مستحمداً لأهل وده لكونه وفقهم ولم يخذلهم كأعدائه : { يوم لا يخزي الله } أي الملك الأعظم{[66496]} الذي له الإحاطة بالكمال{[66497]} { النبي } أي الرجل الذي ينبئه الله بما يوجب له الرفعة التامة من الأخبار التي هي{[66498]} في غاية العظمة { والذين } أي ولا يخزي الذين { آمنوا معه } وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم إن كان المراد{[66499]} المعية في مطلق الزمان ، وسابقوهم إن كان المراد في الوصف أو زمان مخصوص كبدر وبيعة الرضوان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة " كما رواه مسلم{[66500]} عن أم{[66501]} مبشر رضي الله عنها وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه : " ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال : " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " " وقال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح {[66502]}وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا }[ الحديد : 10 ] إلى قوله
{ وكلاًّ وعد الله الحسنى }[ الحديد : 10 ] ونساءه رضي الله عنهن أحق بأن يكن أول راغب في الكون معه في الإيمان ليبعدن عن النيران ، وإذا استحضرت قصص الأنبياء من سورة هود عليه الصلاة والسلام اتضح لك حسن هذا الوجه ، ويجوز أن يكون " الذين " مبتدأ خبره " نورهم " أو يكون الخبر " معه " إشارة إلى أن جميع الأنبياء وصالحي أممهم من أمته و{[66503]}تحت لوائه ، وذلك في غاية ما يكون من الشرف والرفعة له صلى الله عليه وسلم والإيمان المقيد بمعيته ، أي تأهله لمصاحبة إيمانه صلى الله عليه وسلم غير الإيمان المطلق ، فلا مانع من أن يدخل غيرهم من المؤمنين النار ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين فلا متمسك للمعتزلة بها في أن مرتكب الكبائر مخلد في النار لأنه داخل النار فهو مخزي ، فهو غير موصوف بالإيمان لأن من اتصف بالإيمان لا يخزى بدليل هذه الآية ، قال أبو حيان{[66504]} : وفي الحديث : " أنه صلى الله عليه وسلم تضرع في أمر أمته فأوحى الله إليه{[66505]} : إن شئت جعلت حسابهم إليك{[66506]} ، فقال : يا رب ! أنت أرحم بهم مني ، فقال تعالى : إذاً لا أخزيك فيهم " .
ولما نفى عنهم الخزي ، فسره بقوله{[66507]} مقدماً للنور لأن السياق لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما مضى في الحديد : { نورهم يسعى } أي سعياً {[66508]}مستمر التجدد{[66509]} ، وعلى التفسير الآخر تكون هذه الجملة حالية ، ويجوز أن تكون خبراً ل " الذين " إذا جعلناه مبتدأ { بين أيديهم } وحذف الجار{[66510]} إشارة إلى أنه ملأ تلك الجهة{[66511]} { و } كذا { بأيمانهم } وأما ما يلي شمائلهم فإنهم لا يلتفتون إليه لأنهم إما{[66512]} من السابقين وإما من أهل اليمين ، فهم يمشون فيما{[66513]} بين الجهتين ويؤتون صحائف أعمالهم منهما ، وأما أهل الشمال فيعطونها{[66514]} من وراء ظهورهم ومن شمائلهم وهم بما لهم من النور إن قالوا سمع لهم وإن شفعوا شفعوا .
ولما كانت إدامة التعبد للملك هي أشرف صفات العبد قال : { يقولون } أي مجددين لذلك دائماً لعلمهم أن الله تعالى له أن{[66515]} يفعل ما يشاء ، لا حق لأحد عليه{[66516]} ولا سيما إذا{[66517]} رأوا انطفاء نور المنافقين ، قال سهل : لا يسقط الافتقار إلى الله تعالى عن المؤمنين في الدنيا ولا في الآخرة بل هم في الآخرة أشد افتقاراً إليه وإن كانوا في دار العز{[66518]} لشوقهم إلى لقائه : { ربنا } أي أيها المتفضل علينا بهذا النور وبكل خير كنا{[66519]} أو نكون فيه { أتمم } فأظهروا لأن المقام له .
ولما كان الإنسان ربما رزق شيئاً فانتفع به غيره دونه قالوا : { لنا نورنا } أي الذي مننت به علينا حتى يكون في غاية التمام فتوصلنا به إلى المأمن في دار السلام ، ولا تجعلنا كالمنافقين الذين أطفأت أنوارهم فكانت عاقبتهم إلى الظلام .
ولما كان كل من حسن أدبه لا بد أن يعتقد في نفسه النقص ، قالوا {[66520]}على سبيل الذلة والمسكنة والتواضع{[66521]} : { واغفر لنا } أي امح عنا كل نقص كان يميل بنا إلى أحوال المنافقين عينه وأثره ، وهذا النور هو صورة أعمالهم في الدنيا لأن الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء وتتبع الصور معانيها ، وهو شرع الله الذي شرعه وهو الصراط الذي يضرب بين ظهراني جهنم لأن الفضائل في الدنيا متوسطة بين الرذائل ، فكل فضيلة تكتنفها رذيلتان : إفراط وتفريط ، فالفضيلة هي الصراط المستقيم ، والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله ، فمن كان يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاماً ، ومن أمالته الشهوات طفىء نوره - {[66522]}أعاذنا الله من ذلك ورزقنا حسن الثبات ، وكان ذلك الطفىء{[66523]} في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها ، والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التوحيد ، فإذا مشى طفىء لأن إقراره لا حقيقة له فنوره لا حقيقة له{[66524]} .
ولما كان ما ذكر لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، علله بقوله مؤكداً لإنكار الكفار البعث وما تفرع عنه : { إنك } أي وحدك { على كل شيء } أي يمكن دخول المشيئة فيه { قدير * } أي بالغ القدرة .