قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً } .
قرأ الجمهور : بفتح نون «نَصُوحاً » .
فهي صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازاً ، وهي من : نصح الثوب ، أي : خاطه فكأنه التائب يرقع ما حرقه بالمعصية .
وقيل : هي من قولهم : عسل ناصح ، أي : خالص .
وقرأ أبو بكر{[57245]} : بضم النون .
وهو مصدر «نَصَحَ » ، يقال : نصح نصحاً ونصوحاً ، نحو : كَفَر كُفْراً وكُفُوراً ، وشَكَرَ شُكْراً وشُكُوراً .
أحدها : أنه مفعول له ، أي : لأجل النصح الحاصل نفعه عليكم .
والثاني : أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي : ينصحهم نصحاً .
الثالث : أنه صفة لها ، إما على المبالغة على أنها نفس المصدر ، أو على حذف مضاف ، أي : ذات نصوحٍ .
وقرأ زيد{[57246]} بن عليّ : «تَوْباً » دون تاء .
فصل في تعلق هذه الآية بقوله يا أيها الذين كفروا
قال ابن الخطيب{[57247]} : وجه تعلق هذه الآية بقوله : { يا أيها الذين كَفَرُواْ } أنه - تعالى - نبّههم على رفعِ العذاب في ذلك اليوم ، بالتوبة في الدنيا ، إذ في ذلك اليوم لا تفيدُ التوبةُ .
أمر بالتَّوبة ، وهي فرض على الأعيان في كُلِّ الأحوال ، وكُلِّ الأزمان واختلفوا في التوبة النَّصُوح :
فقيل : هي التي لا عودة بعدها ، كما لا يعود اللَّبن إلى الضرع .
روي عن عمر ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، ورفعه معاذٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم{[57248]} .
وقال قتادة : «النَّصُوحُ » الصَّادقة الخالصة{[57249]} .
وقيل : الخالصة . يقال : نصح له ، أي : أخلص له القول .
وقال الحسن : «النَّصُوحُ » أن يبغض الذنب الذي أحبه ، ويستغفر منه إذا ذكره{[57250]} .
وقيل : هي التي لا يثق بقبولها ، ويكون على وجلٍ منها .
وقال الكلبيُّ : التوبة النَّصوح ، الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع عن الذنب ، والعزم على ألاَّ يعود .
فصل في الأشياء التي يُتَاب منها
قال بعض العلماءِ : الذنبُ الذي لا يكونُ منه التوبةُ لا يخلو ، إما أن يكون حقاً لله أو للآدميين ، فإن كان حقاً لله عز وجل كتركِ صلاة ، أو صوم أو تفريط في زكاة ؛ فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها .
وإن كان قتل نفساً بغير حقٍّ ، فإن تمكن من القصاص منه إن طلب به ، فإن عُفِيَ عنه كفاه النَّدم ، والعزم على ترك العودِ بالإخلاص ، وكذلك إن عُفِي عنه في القَتْل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجداً له ، قال تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فإتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ }[ البقرة : 178 ] .
وإن كان ذلك من حدود الله - ما كان - فإنه إذا تاب إلى الله - تعالى - بالندم الصحيح سقط منه ، وقد نصَّ الله - تعالى - على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرةِ عليهم ، كما تقدم .
وكذلك الشُّرَّاب ، والسُّراق ، والزُّناة إذا صلحوا ، وتابوا ، وعرف ذلك منهم ، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم ، وإن رفعوا إليه فقالوا : تُبْنا لم يتركهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا ، هذا مذهب الشافعي .
فإن كان الذنبُ من مظالم العباد ، فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه ، والخروج عنه - عيناً كان أو غيره - إن كان قادراً عليه ، فإن لم يكن قادراً ، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت ، وأسرعه .
وإن كان لواحد من المسلمين ، وذلك الواحد لا يشعر به ، ولا يدري من أين أتى ، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه ، ثم يسأله أن يعفو عنه ، ويستغفر له ، فإذا عفى ، فقد سقط الذنب عنه ، وإن أرسل من يسأل ذلك له ، فعفى ذلك المظلوم عن ظلمه عرفه بعينه ، أو لم يعرفه ، فذلك صحيح .
وإن أساء رجل إلى رجل ، بأن فزعه بغير حق ، أو غمه ، أو لطمه ، أو صفعه بغير حق ، أو ضربه بسوط وآلمه ، ثم جاءه مستعفياً نادماً على ما كان منه عازماً على ألا يعود فلم يزل يتذلل له ، حتى طابت نفسه فعفا عنه ، سقط الذَّنب عنه ، وهكذا إن شتمه بشتمٍ لا حدَّ فيه .
قوله : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } .
«عَسَى » من الله واجبةً ، وهو معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : «التَّائِبُ من الذَّنْبِ كمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ »{[57251]} .
قوله : «ويُدخِلَكُمْ » . معطوف على «يُكَفِّرَ » .
وابن أبي عبلة{[57252]} : بسكون اللام .
فاحتمل أن يكون من إجراء المنفصلِ مجرى المتصل ، فسلبت الحركة ؛ لأنه يتحلل من مجموع «يُكفِّرَ عَنْكُم » مثل «نطع وقمع » فيقال : فيهما : نَطْع وقَمْع .
ويحتمل أن يكون عطفاً على محل «عَسَى أن يُكَفِّرَ » كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ، ويدخلكم ، قاله الزمخشري{[57253]} .
يعني أن «عَسَى » في محل جزم جواباً للأمر ؛ لأنه لو وقع موقعها مضارع لانجزم كما مثل به الزمخشري .
وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم أن «عَسَى » جوابٌ ولا تقع جواباً ؛ لأنها للإنشاء .
قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِي الله النبي } .
«يَوْمَ » منصوب ب «يُدخِلَكُم » ، أو بإضمار «اذْكُرْ » .
ومعنى «يُخْزِي » هنا : يعذب ، أي : لا يعذبه ، ولا يعاقب الذين آمنوا معه .
قالت المعتزلة : قوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِي الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } يدل على أنه لا يعذب الذين آمنوا ؛ لأن الإخزاء يقع بالعذاب ، ولو كان أصحاب الكبائر من أهل الإيمان لم يخفف عليهم العذاب .
قال ابنُ الخطيب{[57254]} : وأجاب أهل السُّنة بأنه - تعالى - وعد أهل الإيمان بألاَّ يخزيهم .
من أهل السنَّةِ من يقف على قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِي الله النبي } ، ومعناه لا يخزيه في رد الشفاعة ، والإخزاء : الفضيحة ، أي : لا يفضحهم بين يدي الكفار ، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا تقف الكفرة عليه .
قوله : { والذين آمَنُواْ } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون منسوقاً على «النَّبِي » ، أي : ولا يخزي الذين آمنوا ، فعلى هذا يكون «نُورُهُمْ يَسْعَى » مُستأنفاً ، أو حالاً .
والثاني : أن يكون مبتدأ ، وخبره «نُورُهُمْ يَسْعَى » ، و «يَقُولُون » خبر ثاني أو حال .
وتقدم إعراب مثل هذه الجمل في «الحديد » وإعراب ما بعدها في «براءة » .
وقرأ أبو حيوة ، وأبو نهل{[57255]} الفهمي : «وبإيْمَانهِمْ » بكسر الهمزة .
ومعنى قوله : { نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي : في الدنيا وبأيمانهم عند الحساب ، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم ، وفيه نور ، وخير .
وقيل : يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع أقدامهم «وبأيْمانِهِمْ » لأن خلفهم وشمالهم طرق الكفرة ، وقولهم : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } قال ابن عباس : يقولون ذلك عند إطفاء نور المُنافقين{[57256]} إشفاقاً{[57257]} .
وقال الحسنُ : إنه - تعالى - يتمّم لهم نورهم ، ولكنهم يدعون تقرباً إلى حضرة الله تعالى ، كقوله : { واستغفر لِذَنبِكَ }[ غافر : 55 ] وهو مغفور{[57258]} .
وقيل : أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر موضع قدمه ، فيسألون إتمامه .
وقال الزمخشري{[57259]} : السَّابقون إلى الجنَّة يمرون كالبرقِ على الصِّراط ، وبعضهم كالريح ، وبعضهم كالجواد المسرع ، وبعضهم حَبْواً ، وهم الذين يقولون : ربنا أتمِمْ لنا نورنا .
فإن قيل : إنه - تعالى - لا يخزي النبي في ذلك اليوم ، ولا الذين آمنوا معه ؟ .
فالجوابُ{[57260]} : لأن فيه إفادة الاجتماع ، بمعنى لا يخزي الله المجموع ، أي : الذين يسعى نورهم ، وفيه فائدة عظيمة ، إذ الاجتماع بين الذين آمنوا ، وبين نبيهم تشريفٌ في حقهم وتعظيم .