فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (8)

{ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } قرأ الجمهور بفتح النون على الوصف للتوبة أي توبة بالغة في النصح ، وقرئ بضمها أي توبة نصح لأنفسكم ، ويجوز أن يكون جمع ناصح وأن يكون مصدرا ، تنصح صاحبها بترك العود إلى ما ناب عنه ، وصفت بذلك على الإسناد المجازي ، وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم بالعزم على الترك للذنب ، وترك المعاودة له .

قال قتادة : التوبة النَّصوح الصادقة ، وقيل : الخالصة ، وقال الحسن التوبة النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره ، وقال الكلبي : التوبة النصوح الندم بالقلب والاستغفار باللسان والإقلاع بالبدن ، والاطمئنان على أن لا يعود وقال سعيد بن جبير : هي التوبة المقبولة ، وعن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب سئل عن التوبة النصوح قال : أن يتوب الرجل من العمل السيئ ، ثم لا يعود إليه أبدا ، وروي عن معاذ مرفوعا هي أن لا يحتاج بعدها إلى توبة أخرى .

" وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود إليه أبدا ( {[1594]} ) أخرجه أحمد وابن مردويه والبيهقي ، وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف ، والصحيح الموقوف كما أخرجه موقوفا عليه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي وابن المنذر .

" وعن ابن مسعود قال : التوبة النصوح تكفر كل سيئة ، وهو في القرآن ، ثم قرأ هذه الآية " ( {[1595]} ) أخرجه الحاكم وصححه .

وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة ، وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال ، وفي كل الأزمان ، واختلف في معناها ، وذكروا في تفسيرها ثلاثة وعشرين قولا متقاربة المعنى لا يسعها هذا الموضع ، وملاك الأمر فيها أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، ولو حز بالسيف وأحرق بالنار ، وهي واجبة من كل معصية كبيرة أو صغيرة على الفور ، ولا يجوز تأخيرها ، وتجب من جميع الذنوب ، وإن تاب ، من بعضها صحت توبته عما تاب منه ، وبقي الذي لم يتب منه هذا مذهب أهل السنة والجماعة .

وقد أخرج مسلم :

" عن الأغر بن يسار المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة ( {[1596]} ) .

" وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " ( {[1597]} ) أخرجه البخاري ، وأخرجا :

" " عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره ، وقد أضله في أرض الفلاة " ، الحديث .

" وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ، ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها : رواه مسلم .

" وعن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " أخرجه الترمذي وحسنه .

{ عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئآتكم ويدخلكم } بسبب تلك التوبة { جنات تجري من تحتها الأنهار } معطوف على يكفر منصوب بناصبه ، وبالنصب قرأ الجمهور ، وقرئ بالجزم عطفا على محل عيسى ، كأنه قال توبوا يوجب تكفير سيئآتكم ، ويدخلكم ، وعسى وإن كان أصلها للإطماع فهي من الله واجبة تفضلا وتكرما لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وليس واجبا عقليا { يوم } أي يدخلكم يوم { لا يخزي الله النبي } أو منصوب باذكر { والذين آمنوا معه } أي صاحبوه في وصف الإيمان معطوف على النبي ، وقيل : الموصول مبتدأ وخبره قوله : { نورهم يسعى بين أيديهم } يسعى { بأيمانهم } والأول أولى ، وفيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والجملة حالية أو مستأنفة لبيان حالهم .

وقد تقدم في سورة الحديد أن النور يكون معهم حال مشيهم على الصراط والمراد بأيمانهم جهاتهم كلها والتقييد بالأمام والإيمان لا ينفي أن لهم نورا على شمائلهم ، بل لهم نور لكن لا يلتفتون إليه ، لأنهم إما من السابقين فيمشون فيما هو أمامهم ، وإما من أهل اليمين فيمشون فيما هو عن أيمانهم ، عن ابن عباس في الآية قال : ليس أحد من الموحدين لا يعطي نورا يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفئ نوره ، وما من مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق ، قال ابن مسعود : يمرون على صراط على قدر أعمالهم ، يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه ذكره السيوطي في البدور السافرة .

{ يقولون } خبر ثان أو حال : { ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير } هذا دعاء المؤمنين حين إطفاء الله نور المنافقين كما تقدم بيانه وتفصيله .


[1594]:رواه أحمد.
[1595]:رواه الحاكم.
[1596]:رواه مسلم.
[1597]:رواه البخاري.