{ ولا تمنن تستكثر } لا تعط أحدا شيئا طالبا للكثير عوضا عنه ؛ فهو نهى عن الاستعواض نهى تحريم ، فيحرم
عليه أن ينتظر العوض عما أعطى . وهو خاص به صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى اختار لنبيه أشرف الآداب وأحسن الأخلاق . وأما بالنسبة لأمته فهو جائز . وقيل : النهي للتنزيه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم ولأمته . أو لا تنعم على أحد بشيء رائيا ما أنعمت به كثيرا ؛ لأن ذلك لا يليق بك .
ولا تمنن تستكثر : لا تمنَّ بعملك على غيرك ، ومعنى تستكثر : لا تستكثر
ولا تمنُنْ على أصحابك فيما تعلّمهم وتبلّغهم عن الوحي مستكثراً ذلك عليهم ، ولا تستكثر أي شيء بَذَلْتَه للناس ، لأن الكريم يستقلُّ ما يُعطي وإن كان كثيراً ، وأعطِ عطاءَ من لا يخاف الفقر . وفي هذا تعليمٌ لنا أن نعطيَ ما استطعنا من غيرِ منٍّ ولا أذى .
{ ولا تمنن تستكثر } أي : لا تعط مالك مصانعةً لتعطى أكثر منه ، وهذا قول أكثر المفسرين ، قال الضحاك ومجاهد : كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . قال الضحاك : هما رباءان حلال وحرام ، فأما الحلال فالهدايا ، وأما الحرام فالربا . قال قتادة : لا تعط شيئاً طمعاً لمجازاة الدنيا ، يعني أعط لربك وأرد به الله . وقال الحسن : معناه لا تمنن على الله فتستكثره ، قال الربيع : لا تكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل . وروى خصيف عن مجاهد : ولا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولهم : حبل متين إذا كان ضعيفاً ، دليله : قراءة ابن مسعود : ولا تمنن أن تستكثر من الخير ، قال ابن زيد معناه : لا تمنن بالنبوة على الناس فتأخذ عليها أجراً أو عرضاً من الدنيا .
الأولى- قوله تعالى : " ولا تمنن تستكثر " فيه أحد عشر{[15556]} تأويلا :
الأول : لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة ، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير .
الثاني : لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة . قال الضحاك : هذا حرمه الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق ، وأباحه لأمته ، وقاله مجاهد .
الثالث : عن مجاهد أيضا لا تضعف{[15557]} أن تستكثر من الخير ، من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا ، ودليله قراءة ابن مسعود " ولا تمنن تستكثر من الخير " .
الرابع : عن مجاهد أيضا والربيع : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير ، فإنه مما أنعم الله عليك . قال ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك ، إنما عملك منة من الله عليك ؛ إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته .
الخامس : قال الحسن : لا تمنن على الله بعملك فتستكثره .
السادس : لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به .
السابع : قال القرظي : لا تعط مالك مصانعة .
الثامن : قال زيد بن أسلم : إذا أعطيت عطية فأعطها لربك .
التاسع : لا تقل دعوت فلم يستجب لي .
العاشر : لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها ، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها .
الحادي عشر : لا تفعل الخير لترائي به الناس .
الثانية- هذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس : لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال ، يقال : مننت فلانا كذا أي أعطيته . ويقال للعطية المنة ، فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله ، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها ؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا ، ولهذا قال : [ ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ] . وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين ؛ ولهذا لم يورث ؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء ، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شيء من الدنيا ؛ ولذلك{[15558]} حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية ، فكان يقبلها ويثيب عليها . وقال : [ لو دعيت إلى كراع{[15559]} لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت ] ابن العربي : وكان يقبلها سنة ولا يستكثرها شرعة ، وإذا كان لا يعطي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب ؛ لأنها باب من أبواب المذلة ، وكذلك قول من قال : إن معناها لا تعطي عطية تنتظر ثوابها ، فإن الانتظار تعلق بالأطماع ، وذلك في حيزه بحكم الامتناع ، وقد قال الله تعالى له : " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى " [ طه : 131 ] . وذلك جائز لسائر الخلق ؛ لأنه من متاع الدنيا ، وطلب الكسب والتكاثر بها . وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح ، فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر .
الثالثة- قوله تعالى : " ولا تمنن " قراءة العامة بإظهار التضعيف . وقرأ أبو السمال العدوي وأشهب العقيلي والحسن " ولا تمن " مدغمة مفتوحة . " تستكثر " : قراءة العامة بالرفع وهو في معنى الحال ، تقول : جاء زيد يركض أي راكضا ، أي لا تعط شيئا مقدرا أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه . وقرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو رديء ؛ لأنه ليس بجواب . ويجوز أن يكون بدلا من " تمنن " كأنه قال : لا تستكثر . وأنكره أبو حاتم وقال : لأن المن ليس بالاستكثار فيبدل منه . ويحتمل أن يكون سكن تخفيفا كعضد . أو أن يعتبر حال الوقف . وقرأ الأعمش ويحيى " تستكثر " بالنصب ، توهم لام كي ، كأنه قال : ولا تمنن لتستكثر . وقيل : هو بإضمار " أن " كقوله{[15560]} :
ألا أيُّهَذَا الزَّاجِرِيُّ أحْضُرَ الوَغَى
ويؤيده قراءة ابن مسعود " ولا تمنن أن تستكثر " . قال الكسائي : فإذا حذف " أن " رفع وكان المعنى واحدا . وقد يكون المن بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم ، فيرجع إلى القول الثاني{[15561]} : ، ويعضده قوله تعالى : " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " [ البقرة : 264 ] وقد يكون مرادا في هذه الآية . والله أعلم .
ولما بدأ بأحد سببي القبول{[69702]} ، أتبعه الثاني المبعد عن قاصمة العمل من الإعجاب والرياء والملل فقال : { ولا تمنن } أي-{[69703]} على أحد بدعائك له أو بشيء تعطيه له على جهة الهبة أو القرض بأن تقطع لذة من أحسنت إليه بالتثقيل عليه بذكرك على جهة الاستعلاء والاستكثار بما فعلته معه ، {[69704]}أو لا{[69705]} تعط شيئاً حال كونك { تستكثر * } أي تطلب أن تعطي أجراً أو أكثر مما أعطيت - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو من قولهم ، منَّ - إذا أعطى ، وذلك لأن الأليق بالمعطي من الخلق أن يستقل ما أعطى ، ويشكر الله الذي وفقه له ، و-{[69706]} بالآخذ أن يستكثر ما أخذ-{[69707]} ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يفعل شيئاً لعلة أصلاً ، بل لله خالصاً ، فإنه إذا زال الاستكثار حصل الإخلاص ، لأنه لا يتعلق همه بطلب الاستمثال ، فكيف بالاستقلال ، فيكون العمل-{[69708]} في غاية الخلوص لا يقصد به ثواباً أصلاً ، ولا يراد لغير وجه الله تعالى ، وهذا هو النهاية في الإخلاص .