ثم بعد ذلك أمر رسولَه الكريم أن يصبر على أذاهم فقال :
{ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت . . . . }
اصبر أيها الرسولُ ، على قضاء ربك . . لا تكن كيونسَ صاحبِ الحوت حينَ ذهبَ مغاضِبا لقومه فكان من أمرِه ما كان ، فنادى ربَّه في الظلمات وهو مملوء غيظا { سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين } [ الأنبياء : 87 ، 88 ] .
{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : لما حكم به شرعًا وقدرًا ، فالحكم القدري ، يصبر على المؤذي منه ، ولا يتلقى بالسخط والجزع ، والحكم الشرعي ، يقابل بالقبول والتسليم ، والانقياد التام لأمره .
وقوله : { وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } وهو يونس بن متى ، عليه الصلاة والسلام أي : ولا تشابهه في الحال ، التي أوصلته ، وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت ، وهو عدم صبره على قومه الصبر المطلوب منه ، وذهابه مغاضبًا لربه ، حتى ركب في البحر ، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها أيهم يلقون لكي تخف بهم ، فوقعت القرعة عليه فالتقمه الحوت وهو مليم [ وقوله ] { إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } أي : وهو في بطنها قد كظمت عليه ، أو نادى وهو مغتم مهتم بأن قال { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } فاستجاب الله له ، وقذفته الحوت من بطنها بالعراء وهو سقيم ، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين ، ولهذا قال هنا : { لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ }
قوله تعالى : " فاصبر لحكم ربك " أي لقضاء ربك . والحكم هنا القضاء . وقيل : فاصبر على ما حكم به عليك ربك من تبليغ الرسالة . وقال ابن بحر : فاصبر لنصر ربك . قال قتادة : أي لا تعجل ولا تغاضب فلا بد من نصرك . وقيل : إنه منسوخ بآية السيف . " ولا تكن كصاحب الحوت " يعني يونس عليه السلام . أي لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة . وقال قتادة : إن الله تعالى يعزي نبيه صلي الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت ، وقد مضى خبره في سورة " يونس{[15276]} ، والأنبياء{[15277]} ، والصافات{[15278]} " والفرق بين إضافة ذي وصاحب في سورة " يونس " فلا معنى للإعادة . " إذ نادى " أي حين دعا في بطن الحوت فقال : " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " [ الأنبياء : 87 ] . " وهو مكظوم " أي مملوء غما . وقيل : كربا . الأول قول ابن عباس ومجاهد . والثاني قول عطاء وأبي مالك . قال الماوردي : والفرق بينهما أن الغم في القلب ، والكرب في الأنفاس . وقيل : مكظوم محبوس . والكظم الحبس ، ومنه قولهم : فلان كظم غيظه ، أي حبس غضبه ، قاله ابن بحر . وقيل : إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس ، قاله المبرد . وقد مضى هذا وغيره في " يوسف{[15279]} " .
ولما انتفى جميع ذلك فثبت أنهم على خطر عظيم ، وأنه سبحانه المختص بعلم الغيب ، وقد أخبر بإهلاكهم من أجله صلى الله عليه وسلم ، وأن كفر من كفر وإيمان من آمن بقضائه وتقديره ، فكان لا بد منهما ، كان ذلك سبباً حاملاً له على{[67749]} الصبر إلى الوقت الذي ضربه سبحانه للفرج ، فقال مسبباً عما تقديره : لم يكن له شيء مما ذكر ، وإنما هو القضاء والقدر : { فاصبر } أي أوفر الصبر وأوجده على كل ما يقولون{[67750]} فيك وعلى غير ذلك من كل ما يقع منهم ومن غيره من مر{[67751]} القضاء والقدر { لحكم ربك{[67752]} } أي للقضاء{[67753]} الذي قضاه وقدره{[67754]} المحسن إليك الذي أكرمك بما أكرمك به من الرسالة وألزمك بما ألزمك من البلاغ وخذلهم بالتكذيب{[67755]} ومد لهم على ذلك في الآجال{[67756]} وأوسع عليهم النعم وأخر ما وعدك به من النصر{[67757]} .
ولما كان حاصل قصة يونس - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - أنه استثقل الكرامة بالرسالة{[67758]} لما فيها من الأمور الشديدة من معالجة الخلق فامتحن ، كان سبباً لقبوله ذلك ، ثم كان سبب إسلام قومه إدناء العذاب منهم وتقريب غشيانه لهم ، أشار له{[67759]} بقصته إلى أنه يراد إعلاؤه - صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء - وإعلاء أمته على {[67760]}سائر الأمم{[67761]} بما يحتاج إلى صبر على{[67762]} ما يستثقل من ضر أو أمر شديد مر فقال : { ولا تكن } أي ولا يكن حالك في الضجر والعجلة {[67763]}إلى غير ذلك{[67764]} . ولما كان قد افتتح السورة بالنون الذي من مدلولاته الحوت ، عبر به هنا تحقيقاً لإرادته فقال : { كصاحب } أي كحال صاحب { الحوت } وهو يونس {[67765]}بن متى{[67766]} عليه الصلاة والسلام { إذ } أي حين ، والعامل في هذا الظرف المضاف المحذوف من الحال ونحوها ، أو يكون التقدير : لا يكن حالك كحاله يحصل لك مثل{[67767]} ما حصل له حين { نادى } أي{[67768]} ربه المربي له بإحاسنه في الظلمات من {[67769]}بطن الحوت وظلمة ما يحيط به من الجثة وظلمة {[67770]}لحج البحار{[67771]} { وهو } أي والحال أنه عند ندائه { مكظوم * } أي مملوء كرباً وهماً وشدة وغماً{[67772]} محمول على السكوت ببطنه فهو لا ينطق من شدة حزنه ، ومحبوس عن جميع ما يريد من التصرف إلى أن ألجأه سبحانه بذلك إلى الدعاء والتضرع ، من الكظم ، وهو السكوت عن امتلاء وتجرع للمرارات{[67773]} ، ومن هذا كظمت السقاء أي {[67774]}شددته وملأته{[67775]} فكان مكظوماً ، والمكظوم{[67776]} : المكروب - كأنه قد أخذ بكظمه وهو مخرج نفسه .