{ ثم رددناه . . . } أي رددناه أقبح من قبح صورة ، وأشوه خلقة ؛ لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين . والمراد به أهل النار . وقيل : رددناه بعد ذلك التقويم أسفل من سفل صورة وشكلا ؛ بالهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، والعجز بعد القدرة ؛ كما قال تعالى : " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " {[411]} .
وقال : " ومن نعمره ننكسه في الخلق " {[412]} . والسافلون : هم الضعفاء والزّمنى والأطفال . وأسفلهم : الهرم . والمردود على المعنيين : بعض أفراد الجنس .
{ ثم رددناه أسفل سافلين } يريد إلى الهرم وأرذل العمر ، فينقص عقله ويضعف بدنه ، والسافلون : هم الضعفاء والزمنى والأطفال ، فالشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعاً ، و{ أسفل سافلين } نكرة تعم الجنس ، كما تقول : فلان أكرم قائم . وفي مصحف عبد الله أسفل السافلين . وقال الحسن ، وقتادة ، ومجاهد : يعني ثم رددناه إلى النار ، يعني إلى أسفل السافلين ، لأن جهنم بعضها أسفل من بعض . قال أبو العالية : يعني إلى النار في شر صورة ، في صورة خنزير .
الثانية- قوله تعالى : " ثم رددناه أسفل سافلين " أي إلى أرذل العمر ، وهو الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، حتى يصير كالصبي في الحال الأول . قاله الضحاك والكلبي وغيرهما . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ثم رددناه أسفل سافلين " إلى النار ، يعني الكافر . وقال أبو العالية : وقيل : لما وصفه اللّه بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها ، طغى وعلا ، حتى قال : " أنا ربكم الأعلى " {[16190]} [ النازعات : 24 ] وحين علم اللّه هذا من عبده ، وقضاؤه صادر من عنده ، رده أسفل سافلين ، بأن جعله مملوءا قذرا ، مشحونا نجاسة ، وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا ، على وجه الاختيار تارة ، وعلى وجه الغلبة أخرى ، حتى إذا شاهد ذلك من أمره ، رجع إل قدره . وقرأ عبد الله " أسفل السافلين " . وقال : " أسفل سافلين " على الجمع ؛ لأن الإنسان في معنى جمع ، ولو قال : أسفل سافل جاز ؛ لأن لفظ الإنسان واحد . وتقول : هذا أفضل قائم . ولا تقول أفضل قائمين ؛ لأنك تضمر لواحد ، فإن كان الواحد غير مضمر له ، رجع اسمه بالتوحيد والجمع ، كقوله تعالى : " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " {[16191]} [ الزمر : 33 ] . وقوله تعالى : " وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة " {[16192]} [ الشورى : 48 ] . وقد قيل : إن معنى " رددناه أسفل سافلين " أي رددناه إلي الضلال ، كما قال تعالى : " إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي إلا هؤلاء ، فلا يردون إلى ذلك . والاستثناء على قول من قال " أسفل سافلين " النار ، متصل . ومن قال : إنه الهرم فهو منقطع .
ولما كان الإنسان مع هذه المحاسن قد سلط الله سبحانه وتعالى عليه شهوات وهيأ طبعه لرذائل وأخلاق دنيئات ، وأهوية وحظوظ للأنفس مميلات ، وكان أكثر الخلق بها هالكاً لتتبين قدرة الله سبحانه وتعالى ، لم يستثن ؛ بل حكم على الجنس كله بها كما حكم عليه بالتقويم ، فقال تعالى دالاً بأداة التراخي على أن اعوجاجه بعد ذلك العقل الرصين والذهن الصافي المستنير في غاية البعد لولا القدرة الباهرة والقوة القاسرة القاهرة : { ثم رددناه } أي بما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل ، فعطل منافع ما خلقناه له فضيع نفسه وفوّت أساب سعادته ونكسناه نحن في خلقه ، فصار بالأمرين في خلقه وخلقه نفساً ، وهوى أو أعم من ذلك بالنكس . { أسفل سافلين * } أي إلى ما تحت رتبة الجمادات المستقذرات ، فصار يعمل الأعمال السيئات المقتضية بعد حسن الجمع لغاية الشتات ، أما رده في خلقه فبأن سلطنا عليه الشهوات التي ركبناها في النفوس ، وجعلناها داعية إلى كل بؤس ، فغلبت على عقله فأعمته حتى أوردته الموارد ، وأوقعته في المهاوي والمعاطب ، حتى أنه ليركب كثيراً من أموره وهو قاطع بأنه باطل شنيع ، لا يقدم على مثله عاقل ، فصار يعبد من دون الله ما هو دون البشر ؛ بل ومطلق الحيوان مما لا ضر فيه ولا نفع ، وصار يركب الظلم والعدوان والإفك والبهتان ، وما لا يحصى بالعد من أنواع الفواحش والعصيان ، ويظلم أبناء جنسه وغيرهم ، ويجتهد في الفجور ، ويتصرف بما لا يشك هو في أنه لا يقره عليه من له أدنى نظر ممن يلزمه أمره ويعنيه شأنه ، فصار بذلك أحط رتبة من البهائم ؛ بل من أدنى الحشرات المستقذرات ؛ لأنها وإن كانت لها شهوات إلا أنها ليس لها عقل تغطيه بها وتطمس نوره بظلامها ، فلا تنسب إلى أنها فوّتت شيئاً لعدم تكليفها لعدم العقل الموجب للشرف ، وأما هو فاستعمل ما خلقناه له من الآلات ، وما فضلناه به من الكمالات ، في غير ما خلقناه له فاستحق العذاب المهين ، ثم يموت من غير مجازاة على شيء من ذلك أو على كثير منه ، فلا بد في الحكمة حينئذ من بعثه ، وله بعد البعث عند ربه على ذلك عذاب مقيم ، وأما في خلقه فبالهرم حتى صار بعد تلك القوى ضعيفاً ، وبعد ذلك العز ذليلاً مهيناً ، وبعد ذلك العلم الغزير والفكر المنير لا يعلم شيئاً ، وصار يستقذره وينكره من كان يألفه ويستعطره ، وقال ابن برجان : أما رده في طريق الديانة فبالكفر والتكذيب ، وأما فيما سبيله الجزاء فبالمسخ في دار البرزخ ، وتحويل صورته إلى ما غلب عليه خلقته وعمله في الدنيا من الدواب والهوام والبهائم ، وفي الآخرة تزرق عيناه ويشوه خلقه ، وقال الإمام أبو العباس الأقليشي في شرح " المقدم المؤخر " من شرحه للأسماء الحسنى : إن الله تعالى خلقه - أي الإنسان - أولاً في أحسن تقويم ، ثم ركبه في هذا الجسم الذي يجذبه إلى أسفل سافلين ، فإن قدم عقله على هواه صعد إلى أعلى عليين ، وكان من المقربين المقدمين ، وإن قدم هواه هبط إلى إدراك الجحيم ، وكان من المبعدين المؤخرين .