نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ} (5)

ولما كان الإنسان مع هذه المحاسن قد سلط الله سبحانه وتعالى عليه شهوات وهيأ طبعه لرذائل وأخلاق دنيئات ، وأهوية وحظوظ للأنفس مميلات ، وكان أكثر الخلق بها هالكاً لتتبين قدرة الله سبحانه وتعالى ، لم يستثن ؛ بل حكم على الجنس كله بها كما حكم عليه بالتقويم ، فقال تعالى دالاً بأداة التراخي على أن اعوجاجه بعد ذلك العقل الرصين والذهن الصافي المستنير في غاية البعد لولا القدرة الباهرة والقوة القاسرة القاهرة : { ثم رددناه } أي بما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل ، فعطل منافع ما خلقناه له فضيع نفسه وفوّت أساب سعادته ونكسناه نحن في خلقه ، فصار بالأمرين في خلقه وخلقه نفساً ، وهوى أو أعم من ذلك بالنكس . { أسفل سافلين * } أي إلى ما تحت رتبة الجمادات المستقذرات ، فصار يعمل الأعمال السيئات المقتضية بعد حسن الجمع لغاية الشتات ، أما رده في خلقه فبأن سلطنا عليه الشهوات التي ركبناها في النفوس ، وجعلناها داعية إلى كل بؤس ، فغلبت على عقله فأعمته حتى أوردته الموارد ، وأوقعته في المهاوي والمعاطب ، حتى أنه ليركب كثيراً من أموره وهو قاطع بأنه باطل شنيع ، لا يقدم على مثله عاقل ، فصار يعبد من دون الله ما هو دون البشر ؛ بل ومطلق الحيوان مما لا ضر فيه ولا نفع ، وصار يركب الظلم والعدوان والإفك والبهتان ، وما لا يحصى بالعد من أنواع الفواحش والعصيان ، ويظلم أبناء جنسه وغيرهم ، ويجتهد في الفجور ، ويتصرف بما لا يشك هو في أنه لا يقره عليه من له أدنى نظر ممن يلزمه أمره ويعنيه شأنه ، فصار بذلك أحط رتبة من البهائم ؛ بل من أدنى الحشرات المستقذرات ؛ لأنها وإن كانت لها شهوات إلا أنها ليس لها عقل تغطيه بها وتطمس نوره بظلامها ، فلا تنسب إلى أنها فوّتت شيئاً لعدم تكليفها لعدم العقل الموجب للشرف ، وأما هو فاستعمل ما خلقناه له من الآلات ، وما فضلناه به من الكمالات ، في غير ما خلقناه له فاستحق العذاب المهين ، ثم يموت من غير مجازاة على شيء من ذلك أو على كثير منه ، فلا بد في الحكمة حينئذ من بعثه ، وله بعد البعث عند ربه على ذلك عذاب مقيم ، وأما في خلقه فبالهرم حتى صار بعد تلك القوى ضعيفاً ، وبعد ذلك العز ذليلاً مهيناً ، وبعد ذلك العلم الغزير والفكر المنير لا يعلم شيئاً ، وصار يستقذره وينكره من كان يألفه ويستعطره ، وقال ابن برجان : أما رده في طريق الديانة فبالكفر والتكذيب ، وأما فيما سبيله الجزاء فبالمسخ في دار البرزخ ، وتحويل صورته إلى ما غلب عليه خلقته وعمله في الدنيا من الدواب والهوام والبهائم ، وفي الآخرة تزرق عيناه ويشوه خلقه ، وقال الإمام أبو العباس الأقليشي في شرح " المقدم المؤخر " من شرحه للأسماء الحسنى : إن الله تعالى خلقه - أي الإنسان - أولاً في أحسن تقويم ، ثم ركبه في هذا الجسم الذي يجذبه إلى أسفل سافلين ، فإن قدم عقله على هواه صعد إلى أعلى عليين ، وكان من المقربين المقدمين ، وإن قدم هواه هبط إلى إدراك الجحيم ، وكان من المبعدين المؤخرين .