{ تبارا } هلاكا أو خسارا ودمارا . يقال : تبره يتبره ، إذا أهلكه . ويتعدى بالتضعيف فيقال : تبره الله تتبيرا . ومنه : " إن هؤلاء متبر ما هم فيه " {[368]} .
ثم طلب نوح الغفرانَ لنفسه ولأبوَيه وللمؤمنين والمؤمنات ، وأعادَ الدعاءَ على الكافرين مرّةً أخرى فقال : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } .
أي : خُسراناً وبُعداً من رحمتك . أما سيدُنا محمد الرسولُ العربي الكريم فإنه لم يَدْعُ على قومه بل دَعا لهم أكثرَ من مرَةٍ وكان يقول : « اللهمّ اهدِ قومي فإنهم
لا يَعلمون » وقد استجابَ له . ونسأل اللهَ تعالى أن يهديَ العربَ إلى سَواء الطريق ويجمع كلمتَهم ، ويوحّد صفوفَهم ليواجهوا عدوَّهم المشترك ، وأن يقوّوا صِلَتَهم بجميع المسلمين { وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } [ الشورى : 29 ] .
قوله تعالى : " رب اغفر لي ولوالدي " دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين . وهما : لمك{[15414]} بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش ؛ ذكره القشيري والثعلبي . وحكى الماوردي في اسم أمه منجل . وقال سعيد بن جبير : أراد بوالديه أباه وجده . وقرأ سعيد بن جبير " لوالدي " بكسر الدال على الواحد . قال الكلبي : كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون . وقال ابن عباس : لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام . " ولمن دخل بيتي مؤمنا " أي مسجدي ومصلاي مصليا صدقا بالله . وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالمغفرة . وقد قال النبي . صلي الله عليه وسلم : ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه ) الحديث . وقد تقدم . وهذا قول ابن عباس : " بيتي " مسجدي ، حكاه الثعلبي وقاله الضحاك . وعن ابن عباس أيضا : أي ولمن دخل ديني ، فالبيت بمعنى الدين ، حكاه القشيري وقاله جويبر . وعن ابن عباس أيضا : يعني صديقي الداخل إلى منزلي ، حكاه الماوردي . وقيل : أراد داري . وقيل سفينتي . " وللمؤمنين والمؤمنات " عامة إلى يوم القيامة ، قاله الضحاك . وقال الكلبي : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : من قومه ، والأول أظهر . " ولا تزد الظالمين " أي الكافرين . " إلا تبارا " إلا هلاكا ، فهي عامة في كل كافر ومشرك . وقيل : أراد مشركي قومه . والتبار : الهلاك . وقيل : الخسران ، حكاهما السدي . ومنه قوله تعالى : " إن هؤلاء متبر ما هم فيه{[15415]} " [ الأعراف : 139 ] . وقيل : التَّبَار الدمار ، والمعنى واحد . والله أعلم بذلك . وهو الموفق للصواب .
ولما {[68887]}دل هذا كله على{[68888]} أنه دعا على أعداء الله ، دعا أيضاً{[68889]} لأوليائه وبدأ بنفسه لأنه{[68890]} رأس تلك الأمة ، فقال مسقطاً على عادة أهل الخصوص : { رب } أي أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب{[68891]} من تجنبني ، فإن من{[68892]} كانت طبيعته طبعت{[68893]} على شيء لا تحول عنه .
ولما كان المقام الأعلى أجل من أن يقدره أحد حق قدره قال : { اغفر لي } أي فإنه لا يسعني وإن كنت معصوماً إلا حلمك وعفوك ورحمتك . ولما أظهر بتواضعه عظمة الله سبحانه وتعالى رتب المدعو لهم على{[68894]} الأحق فالأحق فقال{[68895]} : { ولوالديّ } وكانا مؤمنين وهما لمك بن متوشلخ وشمخاء بنت أنوش ، قال أبو حيان{[68896]} : وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يكفر لنوح عليه السلام أب فيما بينه وبين آدم عليهم الصلاة والسلام . وأعاد الجار إظهاراً{[68897]} للاهتمام{[68898]} فقال : { ولمن دخل بيتي } لأن المتحرم بالإنسان له حق أكيد لا سيما إن كان مخلصاً في حبه ، ولذا{[68899]} قال : { مؤمناً } ولما خص عم وأعاد الجار أيضاً اهتماماً فقال : { وللمؤمنين والمؤمنات } أي العريقين في هذا الوصف في كل{[68900]} أمة إلى آخر الدهر و{[68901]}لا تزدهم في حال من الأحوال شيئاً من الأشياء إلا مفازاً .
ولما كان التقدير بما أرشد إليه{[68902]} الاحتباك : ولا تكرم المارقين ، عطف عليه قوله : { ولا تزد الظالمين } أي العريقين في الظلم في حال من الأحوال { إلا تباراً * } أي إلا {[68903]}هلاكاً مدمراً{[68904]} مفتتاً لصورهم قاطعاً لأعقابهم {[68905]}مخرباً لديارهم{[68906]} وكما استجاب الله سبحانه وتعالى له في أهل الإيمان والكفران{[68907]} من أهل ذلك الزمان فكذلك يستجيب له في أهل الإيمان وأهل الخسران{[68908]} بالسعادة والتبار في جميع الأعصار إلى أن يقفوا بين يدي العزيز الجبار ، والآية من الاحتباك : إثبات الدعاء المقتضي لأصل إكرام المؤمنين أولاً مرشد إلى حذف الدعاء المفهم لأصل إهانة الكافرين ثانياً ، وإثبات الدعاء بزيادة التبار ثانياً مفهم لحذف الدعاء الموجب لزيادة المفاز أولاً ، وهذا الآخر المفصح بالتبار{[68909]} هو ما أرشد إليه الابتداء بالإنذار ، فقد انطبق الآخر على الأول {[68910]}على أصرح وجه وأكمل ، وأحسن حال وأجمل{[68911]} منال ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله تعالى على كل حال{[68912]} .