{ إذا ناجيتم الرسول } أي أردتم مسارته في أمر ما{ فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } للفقراء . روي عن ابن عباس أن الناس سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثروا حتى شق عليه ؛ فأراد الله أن يخفف على نبيه فأمرهم أن يقدموا صدقة على مناجاته . وعن مقاتل : أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى الله عيه وسلم فيكثرون مناجاته ، ويغلبون الفقراء على مجالسه ؛ حتى كره عليه الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم . فنزلت الآية ، ولم يبين فيها مقدار الصدقة الواجبة ؛ ولعله ما يعد في العرف صدقة تسد حاجة الفقير . وقد أمر بها الواجد لها دون الفقير ، واستمر الحكم زمنا قيل عشرة أيام ، ثم نسخ بعد العمل به زمنا بقوله تعالى في الآية التالية : { وتاب الله عليكم } .
ناجيتم الرسول : إذا أردتم الحديث معه .
فقدّموا بين يدي نجواكم صدقةً : فتصدقوا قبل المناجاة .
ولما أكثر المسلمون من التنافُس في القُرب من مجلس الرسول الكريم لسماعِ أحاديثه ، ولمناجاته في أمورِ الدين ، وشَقّوا في ذلك عليه ، أراد الله أن يخفّف عنه فأنزل قوله تعالى :
{ يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً . . . . } ، إذا أردتم مناجاةَ الرسول فتصدّقوا قبل مناجاتكم له ، ذلك خيرٌ لكم وأطهرُ لقلوبكم . فإن لم تجدوا ما تتصدّقون به فإن الله تعالى قد رخّص لكم في المناجاةِ بلا تقديم صدقة ، { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم } أمام مناجاتكم { صدقة } ، نزلت حين غلب أهل الجدة الفقراء على مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناجاته فكره الرسول ذلك فأمرهم الله بالصدقة عند المناجاة ووضع ذلك عن الفقراء فقال :{ فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } ثم نسخ الله ذلك فقال :
ولما نهى عما يحزن من {[63360]}المقال والمقام{[63361]} ، وكان المنهي عنه من التناجي إنما هو لحفظ قلب الرسول صلى الله عليه وسلم عما يكدره فهو منصرف إلى مناجاتهم غيره ، وكان ذلك مفهماً أن مناجاتهم له صلى الله عليه وسلم لا حرج فيها ، وكان كثير منهم يناجيه ولا قصد له إلا الترفع بمناجاته فأكثروا في ذلك حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم ، وكان النافع للإنسان إنما هو كلام من يلائمه في الصفات ويشاكله في الأخلاق ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس من الدنيا تقذراً لها لأجل بغض الله لها ، أمر من أراد أن يناجيه بالتصدق ليكون ذلك{[63362]} أمارة على {[63363]}الاجتهاد {[63364]}في التخلق{[63365]} بأخلاقه الطاهرة من الصروف عن {[63366]}الدنيا والإقبال على الله ، ومظهراً له عما سلف من الإقبال عليها{[63367]} فإن الصدقة برهان على الصدق في الإيمان ، وليخفف عنه صلى الله عليه وسلم ما كانوا قد أكثروا عليه من المناجاة ، فلا يناجيه إلا من قد خلص{[63368]} إيمانه فيصدق ، فيكون ذلك مقدمة لانتفاعه بتلك المناجاة كما أن الهدية تكون مهيئة للقبول كما ورد " نعم الهدية أمام الحاجة{[63369]} " فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء { إذا ناجيتم } أي أردتم أن تناجوا { الرسول } صلى الله عليه وسلم أي الذي لا أكمل منه في الرسلية{[63370]} ، فهو أكمل الخلق ووظيفته تقتضي أن يكون منه الكلام بما أرسله به الملك وتكون هيبته مانعة من ابتدائه بالكلام ، فلا يكون من المبلغين إلا الفعل بالامتثال لا غير { فقدموا } أي بسبب هذه الإرادة العالية{[63371]} على سبيل الوجوب ومثل النجوى كشخص{[63372]} له يدان يحتاج أن يطهر نفسه ليتأهل للقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال{[63373]} : { بين يدي نجواكم } أي قبل سركم الذي تريدون أن ترتفعوا به { صدقة } تكون لكم{[63374]} برهاناً قاطعاً على إخلاصكم كما ورد أن الصدقة برهان ، فهي مصدقة لكم في دعوى الإيمان التي هي التصديق بالله تعالى ورسوله{[63375]} صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به عن الله تعالى ، ومعظمه الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، ولذلك{[63376]} استأنف{[63377]} قوله : { ذلك } أي الخلق العالي جداً من تقديم التصدق قبل المناجاة يا خير الخلق ، ولعله أفرده بالخطاب لأنه لا يعلم كل ما فيه من الأسرار غيره .
وعاد إلى الأول فقالك { خير لكم } أي في دينكم من الإمساك عن الصدقة { وأطهر } لأن الصدقة طهرة ونماء وزيادة في كل خير ، ولذلك{[63378]} سميت زكاة { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } والتعبير بأفعل لأنهم مطهرون قبله{[63379]} بالإيمان .
ولما أمر بذلك ، وكانت عادته أن لا يكلف بما فوق الوسع للتخفيف على عباده لا سيما هذه الأمة قال :{ فإن لم تجدوا } أي ما تقدمونه .
ولما كان المعنى الكافي في التخفيف : فليس عليكم شيء ، دل عليه بأحسن منه فقال :{ فإن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال ، وأكده لاستبعاد مثله فإن المعهود من الملك إذا ألزم رعيته{[63380]} بشيء أنه لا يسقطه{[63381]} أصلاً ورأساً ، ولا سيما إن كان يسيراً ، ودل على أنه سبحانه لن يكلف بما فوق الطاقة بقوله :{ غفور رحيم * } أي له صفتا{[63382]} الستر للمساوئ والإكرام بإظهار المحاسن ثابتتان{[63383]} على الدوام فهو يغفر ويرحم تارة بعدم العقاب للعاصي{[63384]} ، وتارة للتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف{[63385]} ، وهذه الآية قيل : إنها نسخت قبل العمل بها ، وقال علي رضي الله عنه{[63386]} : ما عمل بها أحد غيري ، أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم وناجيته عشر مرات أتصدق في كل مرة بدرهم ، ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس ، فنزلت الرخصة في ترك الصدقة ، " وروى النسائي في الكبرى والترمذي{[63387]} وقال : حسن غريب وابن حبان وأبو يعلى والبزار{[63388]} عن علي رضي الله عنه أنه قال : لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مرهم أن يتصدقوا " . قلت : بكم يا رسول الله ؟ قال : " بدينار " ، قلت : لا يطيقون . قال : " فنصف دينار " ، قلت : لا يطيقون ، قال : " فبكم ؟ " قلت{[63389]} : بشعيرة : قال{[63390]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك لزهيد " ، فأنزل الله تعالى { أأشفقتم } الآية . وكان علي رضي الله عنه يقول : بي خفف الله عن هذه الأمة . وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند{[63391]} المناجاة شيئاً أو أن لا{[63392]} يكون احتاج إلى المناجاة .