فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم ، مقبحًا فعل قومه ، وشناعة ما عزموا عليه : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } أي : كيف تستحلون قتله ، وهذا ذنبه وجرمه ، أنه يقول ربي الله ، ولم يكن أيضا قولاً مجردًا عن البينات ، ولهذا قال : { وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } لأن بينته اشتهرت عندهم اشتهارًا علم به الصغير والكبير ، أي : فهذا لا يوجب قتله .
فهلا أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق ، وقابلتم البرهان ببرهان يرده ، ثم بعد ذلك نظرتم : هل يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم لا ؟ فأما وقد ظهرت حجته ، واستعلى برهانه ، فبينكم وبين حل قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي .
ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل ، بأي حالة قدرت ، فقال : { وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ }
أي : موسى بين أمرين ، إما كاذب في دعواه أو صادق فيها ، فإن كان كاذبًا فكذبه عليه ، وضرره مختص به ، وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه ، وإن كان صادقًا وقد جاءكم بالبينات ، وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم الله عذابًا في الدنيا وعذابًا في الآخرة ، فإنه لا بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وهو عذاب الدنيا .
وهذا من حسن عقله ، ولطف دفعه عن موسى ، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم ، وجعل الأمر دائرًا بين تينك الحالتين ، وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم .
ثم انتقل رضي الله عنه وأرضاه وغفر له ورحمه - إلى أمر أعلى من ذلك ، وبيان قرب موسى من الحق فقال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } أي : متجاوز الحد بترك الحق والإقبال على الباطل . { كَذَّابٌ } بنسبته ما أسرف فيه إلى الله ، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب ، لا في مدلوله ولا في دليله ، ولا يوفق للصراط المستقيم ، أي : وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق ، وما هداه الله إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية ، فالذي اهتدى هذا الهدى لا يمكن أن يكون مسرفًا ولا كاذبًا ، وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه .
ولما انقضى كلام الرأسين ، وكانت عادة من لم يكن لهم نظام من الله رابط أن قلوبهم لا تكاد تجتمع وأنه لا بد أن يجاهر بعضهم بما عنده ولو عظم شأن الملك القائم بأمرهم ، واجتهد في جمع مفترق علنهم وسرهم ، قال تعالى مخبراً عن كلام بعض الأتباع في بعض ذلك : { وقال رجل } أي كامل في رجوليته { مؤمن } أي راسخ الإيمان فيما جاء به موسى عليه السلام . ولما كان للإنسان ، إذا عم الطغيان ، أن يسكن بين أهل العدوان ، إذا نصح بحسب الإمكان ، أفاد ذلك بقوله : { من آل فرعون } أي وجوههم ورؤسائهم { يكتم إيمانه } أي يخفيه إخفاء شديداً خوفاً على نفسه لأن الواحد إذا شذ عن قبيلة يطمع فيه ما لا يطمع إذا كان واحداً من جماعة مختلفة ، مخيلاً لهم بما يوقفهم عن الإقدام على قتله من غير تصريح بالإيمان .
ولما رآهم قد عزموا على القتل عزماً قوياً أوقع عليه اسم القتل ، فقال منكراً له غاية الإنكار : { أتقتلون رجلاً } أي هو عظيم في الرجال حساً ومعنى ، ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال : { أن } أي لأجل أن { يقول } ولو على سبيل التكرير : { ربي } أي المربي لي والمحسن إليّ { الله } أي الجامع لصفات الكمال { وقد } أي والحال أنه قد { جاءكم بالبينات } أي الآيات الظاهرات من غير لبس { من ربكم } أي الذي لا إحسان عندكم إلا منه ، وكما أن ربوبيته له اقتضت عنه الاعتراف له بها فكذلك ينبغي أن تكون ربوبيته لكم داعية لكم إلى اعترافكم له بها .
ولما كان كلامه هذا يكاد أن يصرح بإيمانه ، وصله بما يشككهم في أمره ويوقفهم عن ضره ، فقال مشيراً إلى أنه لا يخلو حاله من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، مقدماً القسم الذي هو أنفى للتهمة عنه وأدعى للقبول منه : { وإن } أي والحال أنه إن .
ولما كان المقام لضيقه غاية الضيق بالكون بين شرور ثلاثة عظيمة : قتلهم خير الناس إذ ذاك ، وإتيانهم بالعذاب ، واطلاعهم على إيمانه ، فأقل ما يدعوهم ذلك إلى اتهامه إن لم يحملهم على إعدامه داعية للإيجاز في الوعظ والمسارعة إلى الإتيان بأقل ما يمكن ، حذف النون فقال : { يك كاذباً فعليه } أي خاصة { كذبه } يضره ذلك وليس عليكم منه ضرر ، ولم يقل : أو صادقاً ، وإن كان الحال مقتضياً لغاية الإيجاز لئلا يكون قد نقص الجانب المقصود بالذات حقه ، فيكون قد أخل ببعض الأدب ، فقال مظهراً لفعل الكون عادلاً عما له إلى ما عليهم معادلاً لما ذكره عليه ونقصه عنه إظهاراً للنصفة ودفعاً للتهمة عن نفسه : { وإن يك } حذف نونه لمثل ما مضى { صادقاً يصبكم } أي على وجه العقوبة من الله وله صدقه ينفعه ولا ينفعكم شيئاً .
ولما كان العاقل من نظر لنفسه فلم يرد كلام خصمه من غير حجة ، وكان أقل ما يكون من توعد من بانت مخايل صدقه البعض ، قال ملزماً الحجة بالبعض ، غير ناف لما فوقه إظهاراً للانصاف وأنه لم يوصله حقه فضلاً عن التعصب له نفياً للتهمة عن نفسه : { بعض الذي } وقال : { يعدكم } دون " يوعدكم " إشارة إلى أنهم إن وافوه أصابهم جميع ما وعدهموه من الخير ، وإلا دهاهم ما توعدهم من الشر ، والآية من الاحتباك : ذكر اختصاصه بضر الكذب أولاً دليلاً على ضده وهو اختصاصه بنفع الصدق ثانياً ، وإصابتهم ثانياً دليلاً على إصابته أولاً ، وسره أنه ذكر الضار في الموضعين ، لأنه أنفع في الوعظ لأن من شأن النفس الإسراع في الهرب منه ، ولقد قام أعظم من هذا المقام - كما في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما - أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو مظهر إيمانه وقد جد الجد بتحقق الشروع في الفعل حيث اخذ المشركون بمجامع ثوب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فالتزمه أبو بكر رضي الله عنه وهو يقول هذه الآية ، ودموعه تجري على لحيته حتى فرج الله وقد مزقوا كثيراً من شعر رأسه - رضي الله عنه .
ولما كان فرعون قد نسب موسى عليه الصلاة والسلام بما زعمه من إرادته إظهار الفساد إلى الإسراف بعد ما نسبه إليه من الكذب ، علل هذا المؤمن قوله هذا الحسن في شقي التقسيم بما ينطبق إلى فرعون منفراً منه مع صلاحيته لإرادة موسى عليه الصلاة والسلام على ما زعمه فيه فرعون فقال : { إن الله } أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز { لا يهدي } أي إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر { من هو مسرف } أي بإظهار الفساد متجاوز للحد ، وكأنه رضي الله عنه جوز أن يتأخر شيء مما توعد به فيسموه كذباً ، ولذا قال { يصبكم بعض الذي يعدكم } فعلق الأمر بالمبالغة فقال : { كذاب * } لأن أول خذلانه وضلاله تعمقه في الكذب ، ويهدي من هو مقتصد صادق ، فإن كان كاذباً كما زعمتم ضره كذبه ، ولم يهتد لوجه يخلصه ، وإن كان صادقاً أصابتكم العقوبة ولم تهتدوا لما ينجيكم ، لاتصافكم بالوصفين .