تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩} (24)

قوله تعالى : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لََيبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ثم استثنى { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي الذين آمنوا ، واعتقدوا في إيمانهم الأعمال الصالحات ، فإنهم لا يبغي بعضهم على بعض .

ثم أخبر أن من آمن ، واعتقد في إيمانه العمل الصالح ، أي من اتقى من المؤمنين { وقليل ما هم } وترك البغي قليل منهم .

وهذه الآية شديدة صعبة على ما ذكرنا .

وفيه أن المؤمن الذي اعتقد في إيمانه العمل الصالح ، وترك البغي على غيره قليل في كل زمان ودهر ، والله أعلم .

ثم فسر أهل التأويل الظن ههنا الإيقان ، أي أيقن ، وكأن الإيقان ، هو علم يستفاد بالأسباب على ما استفاد داوود عليه السلام علما بخصومة الملكين عنده . ولذلك لا يضاف الإيقان إلى الله ؛ أنه أيقن كذا ، لأنه علم يستفاد بالأسباب ، وهو عالم بذاته لا بسبب .

وأما العلم فإنه قد يستفاد بسبب وبغيره ، لذلك أضيف إليه حرف العلم ، ولم يضف حرف الإيقان ، والله أعلم .

فإن قيل : ما الحكمة في ذكر زلات الرسل ، صلوات الله عليهم ، والأصفياء في الكتاب ؟ وهو وصف نفسه أنه غفور ، وأنه ستور ، وقد أمرنا بالتستر على من ارتكب شيئا من ذلك وبالغفران والعفو ، فكيف ذكر هو زلات أنبيائه وأصفيائه حتى نقرأ زلاتهم في المساجد والمكاتب بأعلى صوت إلى يوم التنادي ؟ وما الحكمة في ذكر ذلك ؟

قال الشيخ أبو منصور محمد بن محمد الفقيه رضي الله عنه تخرج زلات الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، في القرآن وترك التستر عليهم على وجوه :

أحدها : ذكرها ليكون ذلك آية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأن قلوب الخلق وأنفسهم لا تحتمل ذكر مساوئ الآباء والأجداد ، وكذلك لا تحتمل قلوبهم ذكر مساوئ أنفسهم .

فإن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك دل على أنه أمر من الله عز وجل بذكر ذلك ليعلم الناس أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عن أمر منه ذكر ذلك ، والله أعلم .

والثاني : ذكر زلاتهم امتحانا منه عباده أن كيف يعاملون رسلهم بعد ما عرفوا منهم الزلات ، وأظهر عنهم العثرات ، وكيف ينظرون بعين الرحمة والرأفة . يمتحنهم بذلك على ما امتحنهم بسائر أنواع المحن .

والثالث : ذكر زلاتهم ليعلموا ؛ أعني الخلق ، كيف عاملوا ربهم عند ارتكابهم الزلات والعثرات ، فيعاملون ربهم عند ارتكابهم ذلك على ما عامله الرسل بالبكاء والتضرع والفزع إليه والتوبة عن ذلك ، والله أعلم .

والرابع ذكرها ليعلم أن ارتكاب الصغائر لا يزيل الولاية عنه ولا يخرجه من الإيمان .

وذلك على الخوارج بقولهم : إن من ارتكب صغيرة أو كبيرة خرج من الإيمان .

والخامس أن يكون ذكرها ليعلم أن الصغيرة ليست بمغفورة ، ولكن له أن يعذب عليها .

وليس على ما قالت المعتزلة أن ليس لله أن يعذب أحدا على الصغيرة ، والله أعلم .

وزلات الأنبياء عليهم السلام من الصغائر في حقهم لقيام النهي ، وإن كانت مباحة في نفسها في حق غيرهم ، وهي ترك الأفضل ، ثم خاف الأنبياء عليهم السلام على ذلك فلولا أنهم عرفوا أن الله تعالى له أن يعذبهم عليها ، وإلا لم يخافوا منها على ما ذكر منهم .

يذكر عن الحسن أن داوود جزأ الدهر أجزاء : يوما لنسائه ويوما لعباده ربه ويوما للقضاء بين بني إسرائيل ويوما لعباد بني إسرائيل يذكرهم ويذكرونه ، ويبكيهم ، ويبكونه . فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا ، فقالوا : هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب به ذنبا ؟ فأضمر داوود في نفسه أنه يطيق ذلك ، قال : فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه ، وأمر ألا يدخل عليه ، أحد ، فأكب على الزبور يقرؤها ، فابتلي بما ذكروا . قال : ولذلك سمي أوابا ، والله أعلم .

وابن عباس وهؤلاء قالوا : إنه كان له تسع وتسعون امرأة ، فكان يكون عند كل امرأة يوما ، فإذا كان رأس المئة يفرغ للعبادة . ففي ذلك اليوم أصابه ما أصابه .

وقال بعضهم في قوله عز وجل { وعزني في الخطاب } أي غالبني في الكلام ، أراد إذا تكلم أن يكون أبين مني ، وإذا دعا ، ودعوت أن يكون أكرم مني ، أو إذا ما ملت يكون أعرض على ما ذكرنا ، والله أعلم .