الآية 10 : وقوله تعالى : { واصبر على ما يقولون } قال أهل التفسير : اصبر على تكذيبهم إياك .
ألا ترى إلى قوله في سياق الآية : { وذرني والمكذبين أولي النعمة } ؟ [ المزمل : 11 ] فثبت أنه دعا إلى الصبر على التكذيب .
وجائز أن يكون منصرفا إلى هذا وإلى غيره ، لأنهم كانوا لا يقتصرون على الكذب ، بل كانوا ينسبونه إلى الكذب[ أولا ]{[22441]} وإلى السحر ثانيا وإلى الجنون ثالثا وإلى أنه يتيم رابعا ، فكانوا يؤذونه بأنواع الأذى .
فجائز أن يكون قوله : { واصبر على ما يقولون } منصرفا إلى كل ذلك .
ثم الأمر بالصبر يقع بخصال ثلاث :
إحداها{[22442]} : ألاّ تجازهم على تكذيبهم إياك بتكذيبك إياهم .
[ والثانية : ألاّ تجزع عليهم ]{[22443]} وفي الجزع بعض التسلي والتشفي .
[ والثالثة : ألاّ ]{[22444]} تدعو عليهم بالهلاك والتّبار ، بل اصبر[ على ]{[22445]} ذلك .
ولقائل أن يقول : كيف كان يشتد عليه{[22446]} تكذيبهم إياه حتى كاد يتحزن لذلك . والذين{[22447]} نسبوه إلى الكذب كانوا من أعدائه ، وليس يستثقل الكذب من العدو ، لا يستكثر منه ، لأنه بما يعاديه ، يعتقد أنه يسئ إليه بجميع ما يمكنه وسعه ، وإنما يستثقل الكذب من أهل الصفوة والمودة ، فكيف استثقله ؟ وكيف بلغ به التكذيب مبلغا يحزن به حتى يدعى إلى الصبر بقوله : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } الآية [ الأنعام : 33 ] وبقوله : { واصبر على ما يقولون } ؟ والجواب عن هذا أن الكذب والجهل مما يستثقلهما العقل والطبع جميعا ، وكذلك التكذيب أو التجهيل أمر ثقيل على الطبع والعقل جميعا ، حتى إن الكذاب إذا نسب إلى الكذب ، اشتد عليه ذلك ، ولم يتحمّله{[22448]} ، وكذلك الجهول ، إذا عرف بالجهل ، ثقل ذلك عليه .
فإذا كان التكذيب مستثقلا{[22449]} في عقول الخلق وطبائعهم مشوبة بالآفات ، وفي عقولهم نقص ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم مع صفاء عقله وسلامة طبعه من الآفات أحق أن يثقل عليه ، ويحزن لذلك .
ثم ما من إنسان ، ينسب إلى الكذب في ما يحدث عن نفسه أو عمّن سواه من الخلائق ممن علت رتبتهم ، أو انحطت ، إلا وهو يجد لذلك ثقلا ، فكيف إذا أخبر عن الله تعالى ، وكذب فيه ، أليس هذا أحق أن يثقل على القلب ، ويتحزن له ؟ .
ويجوز أن يكون حمله على الحزن شدة إشفاقه على المكذبين لأن تكذيبهم يقضي بهم إلى العطب والهلاك ، فأشفق عليهم باشتغالهم بما به هلاكهم ، وحزن لذلك ، أو يكون حزنه غضبا لله تعالى ، إذ الرسل كانوا يغضبون لله تعالى ، ويشتدون على أعدائه .
والجواب عن قوله{[22450]} : إن المكذبين كانوا من أعدائه ، فكيف اشتد عليه تكذيبهم ، وذلك أمر غير مستبعد{[22451]} من الأعداء ؟ فنقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعاملهم معاملة الوليّ مع وليّه الصفيّ ، ولم يكن يعاملهم بما يعامل به الأعداء لأنه كان يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم . ومن عامل آخر معاملة أقرب الأصفياء معه كان الحق عليهم أن يجاوزه بالإحسان . فإذا تركوا ذلك ، وقابلوه بالتكذيب ، اشتد عليه ، وحزن لذلك .
ثم في قوله : { واصبر على ما يقولون } وفي قوله : { ولا تستعجل لهم }[ الأحقاف : 35 ] إبطال قول من قال : إن الله تعالى لا يفعل بعبد إلا ما هو أصلح له ، لأنا نعلم أنه إذا أذن لنبي من الأنبياء بالدعاء على استعجال الهلاك ، واستجيب في ما دعا ، كان فيه ما يحمل القوم على الإيمان ، ويردعهم عن التكذيب ، لأنهم يخافون حلول النقمة عليهم ، فيتركون التكذيب ، ويقبلون على الإجابة ، فيكون فيه نجاتهم من الهلاك وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم . فإذا لم يؤذن ، دلّ أنه ليس من شرط الله تعالى أن يفعل بعباده ما هو أصلح لهم .
فإن قال{[22452]} : كيف لم يؤذن بالدعاء عليهم ليحملهم ذلك على الإسلام ، ويمنعهم عن التكذيب ؟ .
قيل له : لأن في ما ذكرته رفع المحنة والابتلاء ، لأن الحجة إذ ذاك تقع من جهة الضرورة ، لأنهم إذا علّمهم أنهم يستأصلون بالتكذيب امتنعوا عنه ، وأجابوا إلى الإسلام كرها ، فتصير الحجج اضطرارية لا تمييزية واختيارية ، وحجج الرسل عليهم السلام اختيارية لا ضرورية لما ذكرنا أنها لو جعلت اضطرارية لارتفعت المحنة ، فجعلت حججهم من وجه ، تقع بها الشبه ليوصل إلى معرفتها بالفكر{[22453]} لئلا ترتفع المحنة .
فإن قال قائل : إن أبا حنيفة ، رحمه الله ، ذكر في كتابه( العالم والمتعلم ) أن إيمان الملائكة وإيمان الرسل وإيماننا واحد ، ثم قال : فإذا استوينا نحن والرسل في الإيمان ، فكيف صار الثواب لهم أكمل ، وخوفهم من الله تعالى أشد ؟ .
فأجاب{[22454]}عن هذا السؤال بأجوبة ، وقال في جملة ما أجاب : إنهم لو ارتكبوا الزّلات لحل بهم العقاب[ عقيب ]{[22455]} الزلل ، فصار خوفهم بالله تعالى ألزم في هذه الجهة .
ولسائل أن يسأل على هذا ، فيقول : فإذن إيمانهم بالله تعالى وتركهم المعاصي ضروري اختياري ؟ فيجاب عنه [ بوجهين :
أحدهما : ]{[22456]} بأن يقال : إن الأنبياء عليهم السلام لم تبين لهم العصمة ، بل كانوا على خوف من وقوعهم في المهالك . ألا ترى إلى قول إبراهيم عليه السلام{ واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام } ؟ [ إبراهيم : 35 ] .
ولو كانت العصمة ظاهرة لكان يستغني عن السؤال[ بقوله تعالى ]{[22457]} في قصة شعيب عليه السلام{ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء /607 – أ/ الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما }[ الأعراف : 89 ] .
فثبت أنه لم تبين لهم العصمة . ونحن إنما شهدنا بالعصمة بالوجود ، لأن الحكمة توجب العصمة ، والرسل عليهم السلام أمروا بتبليغ الرسالة ، ولم يؤذن لهم بالنظر في أمر من تقدمهم[ من ]{[22458]} الرسل لتظهر لهم العصمة بالتدبر والتفكر . فيثبت أنهم كانوا على الخوف والرجاء في فكاك أنفسهم وفي وقوعها في المهالك ، وأن إيمانهم بالله تعالى لم يكن ضروريا ، بل وصلوا إلى معرفته تعالى بالتمييز . ولذلك عظمت درجاتهم .
والثاني : أن الأنبياء عليهم السلام قد كان تقرر في قلوبهم هيبة الله تعالى وعظمته ، فكانت المعرفة هي التي دعتهم إلى الإيمان به ، لا خوف حلول العقوبة بهم لو ارتكبوا الزّلات .
وأما الكفرة فلم يعرفوا عظمة الله ولا قدرته ولا سلطانه حتى يحملهم ذلك على الإيمان به .
فلو حلت العقوبة بهم بالتكذيب لكان الخوف هو الذي يحملهم على الإيمان لا غير ، فيصير إيمانهم ضروريا ، فلهذا لم يعاقبوا بالتكذيب لئلا ترتفع المحنة ، وخولف بينهم وبين غيرهم . وهذا كما يقول : إن أنباء من{[22459]} تقدم من الرسل حجة لرسوله صلى الله عليه وسلم في إثبات نبوته ، وإن كانت تلك الأنباء قد عرفها أهل الكتاب ، وأخبروا بها ، لأن أهل الكتاب عرفوا تلك الأنباء بالتعلم والتلقين ، ولم يختلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من عنده علم تلك الأنباء ، فعلم أنه بالله تعالى ، علم لا بتعليم أحد ، فصارت الأنباء حججا لذلك ، ولم تصر[ بغيره ]{[22460]} حجة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { واهجرهم هجرا جميلا } فجائز أن يكون تأويله : اهجرهم وقت سبهم ونسبتهم إياك إلى ما لا يليق بك ، ولا تعبأ بهم ، ولا تكترث إليهم وإلى ما يتقولون عليك لأن بعض ما يزجر المتقول والسابّ عما هو فيه ، هو كقوله عز وجل : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } [ الفرقان : 63 ] .
ويحتمل أن يكون تأويله : أن انقطع عنهم انقطاعا جميلا ، والانقطاع الجميل ألا يترك شفقته عليهم ولا يدعو عليهم بالهلاك ولا يمتنع عن دعائهم إلى ما فيه رشدهم وصلاحهم ، ولذلك قال في وقت أذاهم : ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) : [ الزبيدي في الإتحاف 8/258 وبنحوه البيهقي في دلائل النبوة 3/215 ] .
ويحتمل أن يكون هجره إياهم هجرا جميلا ، وهو ألا يكافئهم بالسيئة ، بل يدفع السيئة بالحسنة كقوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن السيئة }[ المؤمنون : 96 ] إذ ذلك أدعى للخلق إلى إجابة من يفعل ذلك بهم عند المعاملة ، والله أعلم .
ثم[ من ]{[22461]} الناس من يقول بأن هذه الآية نسختها آية السيف ، ومنهم من قال بأنها لم تنسخ ، وصرفوا تأويل الآية إلى جهة لا يعمل عليها النسخ ؛ وذلك أن في قوله : { واهجرهم هجرا جميلا } منع المكافآت لأجل ما آذوه ، ولم يفرض عليه{[22462]} القتال ليكافئهم بأذاهم ، وينتقم منهم{[22463]} بذلك ، بل رجّح قتالهم إلى نصرة الدين ولتكون كلمة الله ، هي العليا .
لذلك لم يكن في آية السيف ما يوجب نسخ هذا ولا نسخ العمل بقوله : { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره }[ البقرة : 109 ] .
والجواب{[22464]} : أنه ليس في قتالهم انتقام منهم ، بل فيه ما يدعو إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله .
وإذا آمنوا بذلك نجوا من العقاب ، وفازوا بعظيم الثواب ، فيصير القتال رحمة لهم لا عقوبة .
ووجه جعله رحمة ، هو أنهم إذا رأوا غلبة المسلمين عليهم مع قلة عددهم والضعف الذي حلّ بأبدانهم لاشتغالهم بعبادتهم ربهم وكثرة عدد المشركين مع قوة أبدانهم أيقنوا أنهم لم ينالوا الغلبة بالحيل والأسباب ، بل الله تعالى ، هو الذي قوّاهم عليهم ، وقام بنصرهم ؛ وتقرر عندهم كون أهل الإسلام على الحق .
وإذا أيقنوا بالحق[ التزموه ، فيحرزون ]{[22465]} به جزيل الثواب وكريم المآب ، فصار القتال رحمة لهم ، لا أن يكون عليهم عقوبة لسوء صنيعهم .
وإذا كان كذلك بقي العمل بقوله عز وجل : { واهجرهم هجرا جميلا } ثابتا باقيا .
وبهذا يجاب من سأل ، فقال : إن الله تعالى يقول لنبيه عليه السلام : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }[ الأنبياء : 107 ] وفي القتال ترك الرحمة ، فكيف يفرضه{[22466]} عليه ؟ فيقال : إن ليس في القتال ترك الرحمة ، بل هو من أبلغ الرحمة وتمامها ، إذ يحملهم على الإيمان وترك التكذيب ، وتعلو منزلتهم ، ويشرف قدرهم في الدنيا والآخرة ، والله أعلم .
وجواب آخر أن يقال : إن الحجة في القتال ليست في القتل ، لأنهم إذا خافوا القتال تركوا التكذيب ، وأقبلوا على الداعي . ألا ترى أنه ذكر أن القوم قبل أن يفرض عليهم القتال كان يدخل الواحد منهم بعد الواحد في هذا الدين . فلمّا شرع القتال جعلوا يدخلون فيه فوجا فوجا وقبيلة قبيلة ؟ .
ثم إباحة القتل تكون بالضرورة لأنهم إذا علموا[ أنهم ]{[22467]} لا يقتلون لم يقع لهم الخوف بالقتال ، وإذا لم يخافوا تركوا الإجابة ، فشرع القتل{[22468]} لتحقيق الخوف ، فلم يكن[ فيه ]{[22469]} ترك الرحمة ، وهو كقوله : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب }[ البقرة : 179 ] .
وفي إقامة القصاص تلف النفس ، ليس فيه إحياء ، ولكن وجه{[22470]} الإحياء فيه ، هو أن القاتل{[22471]} إذا فكر[ أنه ]{[22472]} قتل نفسه بقتل صاحبه ردعه ذلك عن القتل ، فيكون فيه إحياء النفس جميعا ، فيصير إيجاب القصاص سببا للإحياء في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر سببا للإتلاف .
فكذلك هؤلاء إذا أيقنوا بالقتل بامتناعهم عن الإجابة تركوا الامتناع ، وأقبلوا على الإجابة ، فيكون موضوع القتل للرحمة في التحقيق ، وإن كان في الظاهر خارجا مخرج ترك الرحمة ، والله أعلم .