الآية 6 : وقوله تعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } قرئ : وطاء ، و : وطأ{[22404]} .
فمن قرأ : وطاء بالمد ، فتأويله من المواطأة ، وهي الموافقة أي موافقة السمع والبصر والفؤاد ، لأن القلب يكون أفرغ بالليالي من الأشغال التي تحول المرء عن الوصول إلى حقيقة درك معاني الأشياء ، وكذلك السمع والبصر يكونان{[22405]} أحفظ للقرآن وأشد استدراكا لمعانيه .
ومن قرأ : وطأ ، وهو من الوطء بالأقدام ، فتأويله : أنه أشد على البدن وأصعب لأن المرء قد اعتاد التقلب والانتشار في الأرض بالنهار ، ولم يعتد ذلك بالليل ، بل اعتاد الراحة فيه ، فإذا{[22406]} كلف القيام والانتصاب برجليه في الوقت الذي لم يعتد فيه القيام كان ذلك أشد عليه وأصعب على بدنه . ولأن المرء بالنهار ، ليس ينتصب قائما في مكان واحد ، فيمكث فيه ، بل{[22407]} ينتقل من موضع إلى موضع آخر [ ولو ]{[22408]} كلف الانتصاب في مكان[ واحد ]{[22409]} اشتد عليه[ ذلك ]{[22410]} ولحقه الكلال والعناء منه{[22411]} .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتصب قائما ، يصلي إلى نصف الليل أو أكثر ، فكان في ذلك محنة شديدة وكلفة شاقة ، والله أعلم .
ثم الأصل أن المرء يسير بالنهار يطلب{[22412]} ما يتعيش[ به ]{[22413]} ويصل إلى ما يتمتع[ به ]{[22414]} في أمر دنياه ، وينام الليل طلبا للراحة وإيثارا للتخفيف .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنوعا عن اكتساب الأشياء التي يتوصل بها إلى سعة الدنيا إلا القدر[ الذي ]{[22415]} يقيم به مهجته ، وكذلك منع عن الراحة بالليالي ، وأمر بإحياء الليل إلا القدر الذي لابد منه ، والله أعلم .
وجائز أن يكون في الأمر بقيان الليل نوع من الراحة والتخفيف ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه ألزم بتبليغ الرسالة إلى الناس كافة ، فحمّل تبليغها إليهم بالنهار ، ورفعت عنه الكلفة بالليل ، وأمر بأن يتفرغ لعبادة ربه .
وكان الأمر بالتفرغ للعبادة أيسر من الأمر بتبليغ الرسالة لأن في الأمر بالتبليغ أمرا بما فيه المخاطرة بالروح والجسد ، وليس في الأمر بالانتصاب قائما أكثر الليل كذلك ، وإنما فيه إيصال الوجع إلى بعض أعضائه ، فيكون فيه بعض التخفيف .
فإن قيل : / 606 –أ/ على التأويل الأول : كيف خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب النكاح حيث أبيح له فضل العدد ، ولم يبح لأمته ، وفي ذلك تمتع بشهوات الدنيا ؟ .
وجوابه أن يقال : إن المعنى الذي به حظر على غيره الزيادة على الأربع ، وقصر الأمر على الأربع هو خوف الجور .
ألا ترى إلى قوله عز وجل : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } ؟ [ النساء : 3 ] .
وإذا كان التحريم للوجه الذي ذكرنا ارتفع الحظر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى عصمه عن الجور ، ومكنه من العدل بين نسائه .
ثم ليس في إباحة زيادة العدد سوى فضل محنة وكلفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه إذا أمر أن يقوم في ما بينهن بالعدل وأن يبتغي مرضاتهن بحسن العشرة معهن ، وإنما يصل المرء إلى الإرضاء بالأموال ، ولم يتمتع هو من الدنيا بمقدار ما يصل إلى إرضائهن بالأموال ، لم يتهيأ له أن يرضيهن إلا بسعة الأخلاق ، وإن بين لهن[ ذلك ]{[22416]} إلا لتقر أعينهن ، ولا يحزن .
فثبت أنه ليس في إباحة العدد فضل تمتع ، بل فيه زيادة محنة وابتلاء .
وفيه أيضا ما يحقق رسالته ، ويثبت نبوته ، لأن المرء إنما يصل إلى توفير الحقوق الواجبة عليه بالنكاح إذا تناول من فضول الدنيا ، وطعم لذّاتها ، وأعطى النفس شهواتها .
ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ممنوعا من إعطاء النفس شهواتها ، ومع ذلك قام بإيفاء حقوق الزوجات{[22417]} ، فثبت أنه باللطف من الله تعالى وصل إلى إيفاء حقوقهن ، ليس بالأسباب{[22418]} البشرية .
وفي هذه الآية دلالة أن الصلاة تشتمل على الذكر والفعل جميعا لأنه قال تعالى : { أشد } على البدن ، والشدة{[22419]} تكون بالفعل ، وقال : { وأقوم قيلا } وذلك يرجع إلى الذكر .
ثم يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلف تبليغ الرسالة بالليالي لأن أعداءه من الفراعنة ، كانت همتهم أن يقتلوه ، [ أو يمكروا به ]{[22420]} . ولم يكن يتهيأ لهم إيصال الأذى به لمكان أتباعه ، والليالي ، هي أوقات غفلة الأتباع . [ فلو ]{[22421]} كلف التبليغ فيها لتمكنوا من إيصال المكر به ، فوضع عنه التبليغ ، وامتحن بالقيام لعبادة ربه .
وقوله تعالى : { إن ناشئة الليل } أي ساعة الليل ؛ وقيل : هو من نشأ ينشأ ، أي نما ، فسميت ناشئة ، لأن الأوقات تحدث ، وتترادف .
وجائز أن يكون المراد من ناشئة لليل أي ما يوجد من الأحوال في الليل من القيام للصلاة والاشتغال بعبادة الرب ، جل جلاله .
وقوله تعالى : { وأقوم قيلا } أي أصوب كلاما ، والأقوم ، هو المبالغة في الوصف مما أريد بالقيام . فإن أريد به الكلام ، فحقه أن يصرف{[22422]} إلى الصدق ؛ إذ الأقوم من الأخبار أصدقها ، وإن أريد به القيام بإيفاء ما يقتضيه ذلك الكلام ، فمعنى قوله : { وأقوم } أي أبلغ في وفاء[ ما ]{[22423]} يوجبه القول . وإن أريد به القراءة نفسها ، فهو بالليالي أقوم قراءة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.