تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (22)

الآية 22 : وقوله تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم } فالبر ، هو الذي يبذل ما سئل عنه ، ويجيب إلى ما دعي إليه ، فإذا أجاب الله تعالى في ما دعاه إليه من التوحيد ، ووفى بأوامره ، وانتهى عن مناهيه ، فهو من الأبرار .

ثم ما ذكرنا يكون بوجهين :

أحدهما : بالاعتماد وبتحقيقه بالفعل والمعاملة ، فهذا قد وفى بما طلب منه قولا وفعلا ، فيكون هذا ممن يقطع فيه القول باستيجاب الوعد المذكور للأبرار .

والثاني : أن يقوم بوفاء ما طلب منه اعتقادا ، ولم يف ما اعتقده بفعله . فالحكم في مثله الوقف ، ولا يقطع فيه القول باستيحباب الموعود ، بل الله تعالى أن يجازيه بما ضيع من حفظ حدوده بقدر ما وجد من التضييع ، ثم يلحقه بأهل كرامته ، وله أن يعفو عنه بفضله وسعة رحمته .

والفجور ، هو الميل ، والميل يكون بوجهين :

أحدهما : بترك الاعتقاد والفعل جميعا .

[ والثاني : بميل ]{[23306]} في المعاملة ؛ وهو أن يخالف فعله عقده .

فالذي وجد منه الميل عن الوجهين جميعا يحل به ما أوعد ، لا محالة .

وأما الذي خالف فعله عقده فإنه يوقف فيه ، ولا يشهد أنه من جملة من يلحقهم الوعيد ، لا محالة .

ثم قد ذكرنا أن البر إذا ذكر على الانفراد أريد به ما يراد بالتقوى والبر{[23307]} جميعا ، وكذلك التقوى إذا أفرد اقتضى معنى البر . فإذا قرنا جميعا أريد بالتقوى جهة وبالبر جهة ؛ وذلك أن التقوى ، هو أن يتقي المهالك ؛ وذلك يكون بالإجابة إلى ما دعي إليه قولا وفعلا والانتهاء عما نهي عنه قولا وفعلا ، وهذا هو معنى البر أيضا .

فإذا ذكرا معا أريد بالتقوى الاجتناب عن المحارم ، وأريد بالبر إتيان المحاسن .

وكذلك الإيمان إذا ذكر بالانفراد أريد به ما يقتضي الإسلام من المعنى والإيمان جميعا . وكذلك الإسلام يقتضي معنى الإيمان إذا ذكر بالانفراد ، أن الإسلام ، هو أن ترى الأشياء كلها سالمة لله تعالى ، لا يجعل لأحد فيها شرك{[23308]} ، والإيمان أن تصدق الله تعالى بأنه رب كل شيء . وإذا صدقت أنه رب كل شيء فقد جعلت الأشياء كلها سالمة له .

فهذا معنى قولنا{[23309]} : إنه يراد بالإيمان إذا ذكر بالانفراد ما يراد بالإسلام . فإذا ذكرا معا أريد بالإسلام ما يقتضيه ظاهره من جعل الأشياء كلها سالمة له ، وأريد بالإيمان ما يقتضيه ظاهره بقوله : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } الآية [ الأحزاب : 35 ] .

وكذلك الحكم في الخوف والرجاء إذا ذكر كل واحد من الحرفين منفردا اقتضى/632 – أ/ كل واحد منهما معنى الآخر . وإذا ذكرا معا أريد واحد منهما ما يقتضيه ظاهره ، ولم يصرف إلى ما يراد بالآخر .

وقوله تعالى : { لفي نعيم } فجائز أن يكون هذا في الآخرة ؛ يصفهم أنهم أبدا في نعيم ، وجائز أن يكونوا في نعيم الدنيا والآخرة ؛ فيكونون في الدنيا في نعيم العقول دون نعيم الأبدان ، وذلك أنهم يطيعون العقل في ما يدعوهم إليه ، فيتنعمون بعقولهم ؛ وهم{[23310]} الذين تدعوهم إليه عقولهم لما تأبى أنفسهم الإجابة له ، ويشتد عليها ذلك ، فهم في نعيم العقول لا في نعيم الأبدان .

ونعيم الآخرة نعيم البدن والعقل جميعا ، فتتنعم أنفسهم وعقولهم ، ولا يحملون ما تأبى أنفسهم احتماله{[23311]} ؛ قال الله تعالى : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة } [ النحل : 41 ] وقال تعالى : { فلنحيينه حياة طيبة } الآية [ النحل : 97 ] فثبت أنهم في الدنيا والآخرة { لفي نعيم } .


[23306]:في الأصل وم: وميل.
[23307]:في الأصل وم: أو البر.
[23308]:في الأصل وم: شركا.
[23309]:في الأصل وم: قوله.
[23310]:في الأصل وم: يكن.
[23311]:في الأصل وم: احتمالها.