الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم نعت المؤمنين فقال: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه} ليلة العقبة بمكة.

{فمنهم من قضى نحبه} أجله فمات على الوفاء يعني حمزة وأصحابه قتلوا يوم أحد، رضي الله عنهم.

{ومنهم من ينتظر} المؤمنين من ينتظر أجله على الوفاء بالعهد، {وما بدلوا} العهد {تبديلا} كما بدل المنافقين.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره "مِنَ المُؤْمِنِينَ "بالله ورسوله "رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْه" يقول: أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضرّاء، وحين البأس، "فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ" يقول: فمنهم من فرغ من العمل الذي كان نذره الله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أُحد، وبعض في غير ذلك من المواطن، "وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ" قضاءه والفراغ منه، كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده، والنصر من الله، والظفر على عدوّه. والنّحب: النذر في كلام العرب. وللنحب أيضا في كلامهم وجوه غير ذلك، منها الموت... وقوله: "وَما بَدّلُوا تَبْدِيلاً": وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييرا، كما غيره المعوّقون القائلون لإخوانهم: هلم إلينا، والقائلون: إن بيوتنا عورة.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

شَكَرَ صنيعَهم في المراس، ومدح يقينهم عند شهود الباس، وسماهم رجالاً إثباتاً لخصوصية رتبتهم وتمييزاً لهم من بين أَشكالهم بعلوِّ الحالة والمنزلة، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صدْقه ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، ولم يزيغوا عن عهدهم، ولم يراوغوا في مراعاة حدِّهم؛ فحقيقةُ الصدق حِفْظُ العهد وتَرْكُ مجاوزة الحدِّ. ويقال: الصدقُ استواءُ الجهر والسِّرِّ. ويقال: هو الثباتُ عندما يكون الأَمرُ جِدًّا...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

الصدق كمال الإخلاص...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال: لما نسخنا الصُّحُف، فَقَدْتُ آيةً من "سورة الأحزاب "كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري -الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين -: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} انفرد به البخاري دون مسلم..

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان كل من آمن بائعاً نفسه وماله لله، لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وكان بعض الراسخين في الإيمان لم يعط الإيمان حقه في القتال في نفسه وماله، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، أما في ماله فبالخروج عنه كله، وأما في نفسه فيما يقحمها من الأهوال، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له في بعض المواطن:"الزم مكانك وأمتعنا بنفسك"، "ويقول له ولعمر رضي الله عنهما أنهما من الدين بمنزلة السمع والبصر "وكان أبو بكر رضي الله عنه في ليلة الغار يذكر الطلب فيتأخر، والرصد فيتقدم، وما عن الجوانب فيصير إليها، ومنهم من وفى هذه الغزوة وما قبلها فأراد الله التنويه بذكرهم والثناء عليهم توفية لما يفضل به في حقهم، وترغيباً لغيرهم فأظهر ولم يضمر لئلا يتقيد بالمذكورين سابقاً فيخص هذه الغزوة فقال: {من المؤمنين} أي الكمل {رجال} أي في غاية العظمة عندنا، ثم وصفهم بقوله: {صدقوا}. ولما كان العهد عند ذوي الهمم العلية، والأخلاق الزكية، لشدة ذكرهم له ومحافظتهم على الوفاء به، وتصوره لهم حتى كأنه رجل عظيم قائم تجاههم، يتقاضاهم الصدق، عدى الفعل

إليه فقال: {ما عاهدوا الله} المحيط علماً وقدرة وجلالاً وعظمة {عليه} أي من بيع أنفسهم وأموالهم له بدخولهم في هذا الدين، الذي بنى على ذلك فوفوا به أتم وفاء، وفي هذا إشارة إلى أبي لبابة بن المنذر رضي الله عنه، وكان من أكابر المؤمنين الراسخين في صفة الإيمان حيث زل في إشارته إلى بني قريظة بأن المراد بهم الذبح، كما تقدم في الأنفال في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} [الأنفال: 27] فذهب من حينه وربط نفسه تصديقاً لصدقه في سارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة. ولما ذكر الصادقين، وكان ربما فهم أن الصدق لا يكون إلا بالقتل، قسمهم قسمين مشيراً إلى خلاف ذلك بقوله: {فمنهم من قضى} أي أعطى {نحبه} أي نذره في معاهدته، أنه ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم و يموت دونه، وفرغ من ذلك وخرج من عهدته بأن قتل شهيداً، فلم يبق عليه نذر كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير... فالمراد بالنحب هنا العهد الذي هو كالنذر المفضي إلى الموت، وأصل النحب الاجتهاد في العمل، ومن هنا استعمل في النذر لأنه الحامل على ذلك.

{ومنهم} أي الصادقين {من ينتظر} قضاء النحب إما بالنصرة، أو الموت على الشهادة، أو مطلق المتابعة الكاملة.

ولما كان المنافقون ينكرون أن يكون أحد صادقاً فيما يظهر من الإيمان، أكد قوله تعريضاً بهم: {وما بدلوا تبديلاً} أي وما أوقعوا شيئاً من تبديل بفترة أو توان، فهذا تصريح بمدح أهل الصدق، وتلويح بذم أهل النفاق...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام. النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده، وثباته على عهده مع الله، فمنهم من لقيه، ومنهم من ينتظر أن يلقاه هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه، نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار، ثم ولم يوفوا بعهد الله (وكان عهد الله مسؤولا)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والإخبار عنهم برجال زيادة في الثناء، لأن الرجُل مشتق من الرِّجْل وهي قوة اعتماد الإنسان.

{صدقوا ما عاهدوا الله عليه} أنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد وهو إخبار بأنه يفعل شيئاً في المستقبل فإذا فعله فقد صدق، وفعل الصدق يستعمل قاصراً وهو الأكثر، ويستعمل متعدياً إلى المخبَر بفتح الباء.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وساعة تسمع كلمة {رِجَالٌ.. في القرآن، فاعلم أن المقام مقام جدّ وثبات على الحق، وفخر بعزائم صلبة لا تلين، وقلوب رسخ فيها الإيمان رسوخ الجبال.

وهؤلاء الرجال وفوا العهد الذي قطعوه أمام الله على أنفسهم، بأن يبلوا في سبيل نصرة الإسلام، ولو يصل الأمر إلى الشهادة.. فالمؤمن حين يستصحب مسألة الموت ويستقرئها يرى أن جميع الخلق يموتون من لدن آدم عليه السلام حتى الآن، لذلك تهون عليه حياته ما دامت في سبيل الله، فينذرها ويقدمها لله عن رضا، ولم لا وقد ضحيت بحياة، مصيرها إلى زوال، واشتريت بها حياة باقية وخالدة منعّمة...

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

قوله تعالى : " من المؤمنين رجال " رفع بالابتداء ، وصلح الابتداء بالنكرة لأن " صدقوا " في موضع النعت . " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " " من " في موضع رفع بالابتداء . وكذا " ومنهم من ينتظر " والخبر في المجرور . والنحب : النذر والعهد ، تقول منه : نحبت انحب ، بالضم . قال الشاعر :

وإذا نحبت كَلْبٌ على الناس إنهم *** أحق بتاج الماجد المتكرم

وقال آخر :

قد نحب المجدُ علينا نَحْبَا{[12782]}

وقال آخر :

أنَحْبٌ فيقضَى أم ضلالٌ وباطلُ{[12783]}

وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال : قال عمي أنس بن النضر - سميت به - ولم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليه فقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه ، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع . قال : فهاب أن يقول غيرها ، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام القابل ، فاستقبله سعد بن مالك فقال : يا أبا عمرو أين ؟ قال : واها{[12784]} لريح الجنة ! أجدها دون أحد ، فقاتل حتى قتل ، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت عمتي الربيع بنت النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه . ونزلت هذه الآية " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " لفظ الترمذي . وقال : هذا حديث حسن صحيح . وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " الآية : منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصيبت ، يده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أوجب{[12785]} طلحة الجنة ) . وفي الترمذي عنه : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو ؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته ، يوقرونه ويهابونه ، فسأله الأعرابي فأعرض عنه ، ثم سأل فأعرض عنه ، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر ، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أين السائل عمن قضى نحبه ) ؟ قال الأعرابي : أنا يا رسول الله . قال : ( هذا ممن قضى نحبه ) قال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير . وروى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد ، مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه ، فوقف عليه ودعا له ، ثم تلا هذه الآية : " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه - إلى - تبديلا " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم : ( أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ) . وقيل : النحب الموت ، أي مات على ما عاهد عليه ، عن ابن عباس . والنحب أيضا الوقت والمدة يقال : قضى فلان نحبه إذا مات . وقال ذو الرمة :

عشيةَ فرَّ الحارثيون بعد ما *** قضى نحبه في ملتقى الخيل هَوْبَرُ

والنحب أيضا الحاجة والهمة ، يقول قائلهم ما لي عندهم نحب ، وليس المراد بالآية . والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدمنا أولا ، أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل ، مثل حمزة وسعد بن معاذ وانس بن النضر وغيرهم . ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدلوا عهدهم ونذرهم . وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من بدل تبديلا " . قال أبو بكر الأنباري : وهذا الحديث عند أهل العلم مردود ، لخلافه الإجماع ، ولأن فيه طعنا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء ، فما يعرف فيهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل ، رضي الله عنهم .


[12782]:قبله: * يا عمرو يا بن الأكرمين نسبا*
[12783]:هذا عجز بيت للبيد، وصدره: * ألا تسألان المرء ماذا يحاول*
[12784]:هذه الكلمة توضع موضع الإعجاب بالشيء.
[12785]:أوجب الرجل: إذا فعل فعلا وجبت له به الجنة أو النار.