فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } المخلصين { رِجَالٌ صَدَقُوا } أي أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق { مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ } أي وفوا بما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة من الثبات معه والمقاتلة لمن قاتله ، بخلاف من كذب في عهده وخان الله ورسوله ، وهم المنافقون ، وقيل هم الذين نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا له ولم يفروا .

أخرج البخاري وغيره عن أنس : [ نرى هذه الآية نزلت في أنس ابن النضر ] ، وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، والبغوي في معجمه وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن أنس قال : ( غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه ؟ لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع ، فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ قال يا أبا عمرو أين ؟ قال واها لريح الجنة أجدها دون أحد ، فقاتل حتى قتل ، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين طعنة وضربة ورمية ، ونزلت هذه الآية ، وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه . وقد روي عنه نحوه من طريق أخرى عند الترمذي وصححه ، والنسائي وغيرهما .

وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ، ثم قرأ : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ } ثم قال : أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله ، فأتوهم وزوروهم ، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ، وقد تعقب الحاكم ، في تصحيحه الذهبي ، كما ذكر ذلك السيوطي .

ولكنه قد أخرج الحاكم حديثا آخر وصححه ، وأخرجه أيضا البيهقي في الدلائل عن أبي ذر قال لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مر على مصعب بن عمير مقتولا على طريقه ، فقرأ { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ } الآية وأخرج ابن مردويه من حديث خباب مثله ، وهما يشهدان لحديث أبي هريرة ، ثم فصل سبحانه حال الصادقين بما وعدوا الله ورسوله ، وقسمهم إلى قسمين فقال :

{ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ } أي فرغ من نذره ، ووفي بعهده ، وصبر على الجهاد حتى استشهد ، وقال ابن عمر : أي مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان . والنحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به وأوجبه على نفسه ، والقتل ، والموت . قال ابن قتيبة قضى نحبه أي : قتل . وأصل النحب : النذر كانوا يوم بدر نذروا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله لهم فقتلوا ، فقيل : فلان قضى نحبه ، أي قتل . والنحب أيضا الحاجة وإدراك الأمنية يقول قائلهم : مالي عندهم نحب ، والنحب العهد ، ومعنى الآية أن من المؤمنين رجالا أدركوا أمنيتهم ، وقضوا حاجتهم ، ووفوا بنذرهم ، فقاتلوا حتى قتلوا ، وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر .

أخرج الترمذي وحسنه ، وأبو يلعى ، وابن جرير ، وابن مردويه عن طلحة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو ؟ وكانوا لا يجترؤون على مسألته يوقرونه ويهابونه ، فسأله الأعرابي ، فأعرض عنه ، ثم سأله فأعرض عنه ، ثم إني طلعت من باب المسجد فقال : أين السائل عمن قضى نحبه ؟ قال الأعرابي أنا قال : هذا ممن قضى نحبه .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديثه نحوه .

وأخرج الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( طلحة ممن قضى نحبه ) .

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة ) . أخرجه سعيد بن منصور ، وأبو يعلى ، وأبو نعيم ، وابن المنذر وغيرهم .

وأخرج ابن مردويه من حديث جابر مثله ، وأخرج ابن منده وابن عساكر من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه .

وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن علي إن هذه الآية نزلت في طلحة .

وأخرج أحمد والبخاري وابن مردويه عن سليمان بن صرد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزونا .

{ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ } قضاء نحبه حتى يحضر أجله كعثمان بن عفان ، وطلحة ، والزبير ، وأمثالهم فإنهم مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقتال لعدوه ، ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم بالقتل ، وإدراك فضل الشهادة . { وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا } أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله ورسوله عليه كما غير المنافقون عهدهم ، بل ثبتوا عليه ثبوتا مستمرا ، أما الذين قضوا نحبهم فظاهر ، وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا ولم يغيروا ولا بدلوا .