الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

ثم أثنى سُبحانه على رجالٍ عَاهدوا اللّه على الاسْتِقَامَةِ فَوَفَّوا ، وَقَضَوا نَحْبُهُمْ ، أي : نَذْرَهُمْ ، وَعَهَدَهُمْ ، «والنَّحْبُ » فِي كَلاَمِ العَرَبِ : النَّذْرُ والشَّيءُ الذي يلتزمُهُ الإنسان ، وقَد يُسَمَّى المَوْتُ نَحْباً ، وبهِ فسَّر ابن عبَّاس وغيرُه هذه الآيةَ ، ويقال للذي جاهد في أمرٍ حتى ماتَ : قضى فيه نحبه ، ويقالُ لمن مات : قَضَى فلانُ نَحْبَه فمن سَمَّى المفسرون أنّه أُشِيرَ إليه بهذه الآية أنس بن النضر عَمُّ أنسِ بن مالكٍ ، وذلك أنه غَابَ عن بَدْرِ فساءَه ذلك ، وقال لَئِنْ شَهدت مع رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم مَشْهَداً ليَرَيَنَّ اللّهُ ما أصْنَعُ . فلما كان أحَدٌ أبلَى بلاءً حَسَناً حَتَّى قُتِلَ وَوُجِدَ فيه نَيِّفٌ على ثمانينَ جُرْحاً ، فكانوا يَروْنَ أن هذه الآيةَ في أنس بن النضر ونظرائه .

وقالت فرقة : الموصوفون بقَضَاء النَّحْبِ هم جماعةٌ من أصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَّوْا بِعُهُودِ الإسْلاَمِ عَلَى التَّمَامِ ، فالشُّهَداءُ منهم ، والعَشَرَةُ الذين شَهِدَ لهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بالجنّةِ منْهم ، إلى مَن حَصَل في هذه المرتبةِ مِمَّنْ لَم يُنَصَّ عليه ، ويُصَحَّحُ هذه المقالةَ أيضاً مَا رُوِيَ ( أن رَسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم كان عَلَى المِنْبَرِ ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ : يَا رَسُولَ اللّهِ ، مَنِ الَّذِي قضى نَحْبَهُ ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً ، ثُمَّ دَخَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ على بَابِ المَسْجِدِ ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «أَيْنَ السَّائِلُ ؟ فَقَالَ : هَا أَنَا ذَا ، يا رسُولَ اللّه ، قَالَ : هَذَا مِمَّنْ قضى نَحْبهُ ) .

قال ( ع ) : فهذا أدل دليل على أَن النَّحْبَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِه المَوْتُ .

وقال معاوية بن أبي سفيان : إني سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( طَلْحَةُ مِمَّنْ قضى نَحْبَهُ ) وَرَوَتْ عَائِشَة نَحوَه .

وقوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } [ الأحزاب : 23 ] .

يريدُ ومنهم من ينتظر الحصولَ في أعلى مَراتِب الإيمان والصلاحِ ، وهم بسبيل ذلك { ومَا بدّلوا } ولا غيّرُوا .