إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

{ مِنَ المؤمنين } أي المؤمنينَ بالإخلاصِ مُطلقاً لا الذينَ حُكيتْ محاسنُهم خاصَّة { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } من الثَّباتِ مع الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمقاتلةِ لأعداءِ الدِّينِ وهُم رجالٌ من الصَّحابةِ رضي الله عنهُم نذرُوا أنَّهم إذا لقُوا حرباً مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثبتُوا وقاتلُوا حتَّى يستشهدوا وهُم عثمانُ بنُ عفَّان وطلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وسعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمروِ بن نفيلٍ وحمزةُ ومصعبُ بنُ عُميرٍ وأنسُ بنُ النَّضرِ وغيرُهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومعنى صَدَقُوا أَتَوا بالصِّدقِ من صَدَقني إذا قال لك الصِّدقَ . ومحل ما عاهدُوا النَّصبُ إمَّا بطرحِ الخافضِ عنه وإيصالِ الفعلِ إليه كما في قولِهم : صَدَقني سنّ بكرِه أي في سنِّهِ وإما بجعلِ المُعاهد عليهِ مصدُوقاً على المجازِ كأنَّهم خاطبُوه خطابَ من قال لكرمائِه

نحرتني الأعداءُ إنْ لَم تنحرِي *** . . .

وقالوا له : سنفي بك وحيث وفوا به فقد صدقُوه ولو كانُوا نكثُوه لكذبُوه ولكان مكذُوباً { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } تفصيلٌ لحالِ الصَّادقينَ وتقسيمٌ لهم إلى قسمينِ . والنَّحبُ النَّذرُ وهو أنْ يلتزمَ الإنسانُ شيئاً من أعمالِه ويُوجبه على نفسِه ، وقضاؤُه الفراغُ منه والوفاءُ به ومحلُّ الجارِّ والمجرورِ الرَّفعُ على الابتداءِ على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في قولِه تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله } [ سورة البقرة ، الآية8 ] الآيةَ ، أي فبعضُهم أو فبعضٌ منهُم مَن خرجَ عن العُهدةِ كحمزةَ ومصعبِ بنِ عميرٍ وأنسِ بنِ النَّضرِ عمِّ أنسِ بنِ مالكٍ وغيرِهم رضوان الله عليهم أجمعين فإنَّهم قد قضَوا نذورَهم سواء كانَ النَّذرُ على حقيقتِه بأنْ يكونَ ما نذرُوه أفعالَهم الاختياريةَ التي هي المقاتلةُ المغيَّاةُ بما ليسَ منها ولا يدخلُ تحتَ النَّذرِ وهو الموتُ شَهيداً أو كان مُستعاراً لالتزامِه على ما سيأتي .

{ وَمِنْهُمُ } أي وبعضُهم أو بعضٌ منهم { مَّن يَنتَظِرُ } أي قضاءَ نحبِه لكونِه موقناً كعثمانَ وطلحةَ وغيرِهما ممَّن استُشهد بعد ذلك رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين فإنَّهم مستمرُّون على نذورِهم قد قضَوا بعضَها وهو الثَّباتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والقتالُ إلى حينِ نزولِ الآيةِ الكريمةِ ومنتظرونَ لقضاءِ بعضِها الباقِي وهو القتالُ إلى الموتِ شهيداً . هذا ويجوزُ أنْ يكونَ النَّحبُ مُستعاراً لالتزامِ الموتِ شهيداً إمَّا بتنزيلِ التزامِ أسبابِه التي هي أفعالٌ اختياريَّةٌ للنَّاذرِ منزلةَ التزامِ نفسِه وإمَّا بتنزيلِ نفسِه منزلةَ أسبابِه وإيرادِ الالتزامِ عليه وهو الأنسبُ بمقامِ المدحِ ، وأياً ما كان ففي وصفِهم بالانتظارِ المُنبئ عن الرَّغبةِ في المنتظرِ شهادةٌ حقَّةٌ بكمالِ اشتياقِهم إلى الشَّهادةِ ، وأمَّا ما قيلَ من أنَّ النَّحبَ استُعير للموتِ لأنَّه كنذرٍ لازمٍ في رقبةِ كلِّ حيوانٍ فمسخٌ للاستعارةِ وذهابٌ برونقِها وإخراجٌ للنَّظمِ الكريمِ عن مُقتضى المقامِ بالكلِّيةِ { وَمَا بَدَّلُواْ } عطفٌ على صدَقُوا وفاعلُه فاعلُه أي وما بدَّلُوا عهدَهم وما غيَّروه { تَبْدِيلاً } أي تبديلاً ما لا أصلاً ولا وصفاً بل ثبتُوا عليهِ راغبينَ فيه مُراعين لحقوقِه على أحسنِ ما يكونُ ، أمَّا الذينَ قضَوا فظاهرٌ وأما الباقُون فيشهدُ به انتظارُهم أصدقَ شهادةٍ وتعميمُ عدمِ التَّبديلِ للفريقِ الأول مع ظُهورِ حالِهم للإيذانِ بمساواةِ الفريقِ الثَّاني لهُم في الحُكمِ ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ بدَّلُوا للمنتظرينَ خاصَّة بناءً على أنَّ المحتاجَ إلى البيانِ حالُهم وقد رُوي أنَّ طلحةَ رضي الله عنه ثبتَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحدٍ حتَّى أُصيبتْ يدُه فقال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : ( أوجبَ طلحةُ الجنَّة ) وفي رواية : ( أوجبَ طلحةُ ) وعنه عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ في رواية جابرٍ رضي الله عنه : ( مَن سرَّه أنْ ينظرَ إلى شهيدٍ يمشِي على الأرضِ فلينظُر إلى طلحةَ بنِ عُبيدِ اللَّهِ ) وفي روايةِ عائشةَ رضي الله عنها : ( مَنْ سرَّه أنْ ينظرَ إلى شهيدٍ يمشي على الأرضِ وقد قضَى نحبَه فلينظُر إلى طلحةَ ) وهذا يشيرُ إلى أنَّه من الأولينَ حُكماً .