اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

قوله : { مِنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ } ووفوا به .

قوله : «صدقوا » صدق يتعدى لاثنين لثانيهما بحرف الجر{[43354]} ، ويجوز حذفه{[43355]} ومنه المثل : «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرة »{[43356]} أي في سن . والآية يجوز أن تكون من هذا ، والأول محذوف أي صدقوا الله فيما عاهدوا الله عليه ، ويجوز أن يتعدى لواحد كقولك «صَدَقَنِي زَيْدٌ ، وكَذَبَنِي عَمْرٌو » أي قال لي الصدق وقال الكذب ، ويكون المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً كأنهم قالوا للشيء المعاهد عليه لنوفين بك وقد فعلوا{[43357]} و «ما » بمعنى الذي ، ولذلك عاد عليها الضمير في «عليه »{[43358]} ، وقال مكي «ما » في موضع نصب «بصدقوا » وهي والفعل مصدر تقديره «صَدَقُوا » العهد أي وفوا به{[43359]} . وهذا يرده عود الضمير إلا أن الأخفش وابن السراج{[43360]} يذهبان إلى اسمية «ما » المصدرية .

( قوله{[43361]} ) : «قَضَى نَحْبَهُ » النحب ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به قال :

4079 - عَشِيَّةَ فَرَّ الحَارِثيُّونَ بَعْدَمَا *** قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القَوْمِ هَوْبَرُ{[43362]}

وقال :

4080 - بِطَخْفَةَ جَالَدْنَا المُلُوكَ وَخَيْلُنَا *** عَشِيَّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ{[43363]}

أي على أمر عظيم ، ولهذا يقال : نحب فلان أي نذر نذراً التزمه ويعبر به عن الموت كقولهم «قَضَى أجله »{[43364]} لما كان الموت لا بد منه جعل كالشيء الملتزم والنحيب البكاء معه صوت .

فصل :

قال المفسرون معنى { صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ } أي وفوا بعهدهم الذي عاهدوا الله «فَمِنْهُمْ من قضى نَحْبَهُ » أي فرغ من نذره ووفاه بعهده فصبر على الجهاد وقاتل حتى قتل والنحيب{[43365]} النذر قال القُرطبي : مَنْ قَضَى نحبه{[43366]} أجله فقتل على الوفاء يعني حمزة وأصحابه ، وقيل : قضى نحبه أي{[43367]} بذل جهده في سبيل الوفاء بالعهد من قول العرب «نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع » إذ مد فلم ينزل { وَمِنْهُمْ مَن يَنتَظِرُ } الشهادة يعني من بقي من المؤمنين ينتظرون أحد أمرين إما الشهادة أو النصر { وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } بخلاف المنافقين فإنهم قالوا : لا نولي الأدبار وبدلوا قولهم وولوا أدبارهم .


[43354]:أي حذف حرف الجر.
[43355]:ذكره الميداني في مجمع الأمثال وهو يضرب للصادق في قوله. وله قصة انظر: المجمع للميداني 2/212، واللسان: " ص د ق" 2417، وشاهده: تعدي " صدق" للمفعول الثاني المجيء بحرف جر والذي حذف جوازاً وهو "سن" حيث كان "في سن" فحذفت "في "جوازاً.
[43356]:قاله أبو حيان في البحر 7/223، والسمين في الدر 4/378.
[43357]:المرجعان السابقان.
[43358]:انظر: مشكل الإعراب لمكي 2/195 ثم البيان 2/167.
[43359]:هو أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج كان أحد العلماء المذكورين وأئمة النحو المشهورين أخذ عن أبي العباس المبرد وأخذ عنه الزجاجي والسيرافي وغيرهما مات سنة 310 هـ انظر: نزهة الألباء 166.
[43360]:زيادة من "ب".
[43361]:قاله القرطبي في 14/158 و 160 وغريب القرآن 349 وتأويل مشكل القرآن – وكلاهما لابن قتيبة 183.
[43362]:هو من بحر الطويل وهو لذي الرمة، ويروى: "في ملتقى الخيل" بدل "القوم" وهو يفتخر بشجاعة قومه وإقدامهم. و"هوبر" اسم رجل والشاهد في "نحبه" فهو هنا بمعنى الوفاء والأجل والعهد الذي التزم الإنسان به على نفسه وهو الشاهد المراد وهناك شاهد آخر لا صلة لنا به الآن وهو حذف المضاف دون ما دليل يدل عليه وهو من ضرورات الشعر التي لا يقاس عليها والأصل: ابن هوبر فحذف "ابن" وهذا قد يؤدي إلى اللبس انظر: ابن يعيش 3/24 والقرطبي 14/160 برواية "الخيل" وفتح القدير 4/271 والهمع 2/51 والطبري 21 ص 92، والدر المصون 4/378.
[43363]:البيت من الطويل وهو لجرير وطَخْفَة مكان وبسطام: يوم لهم وشاهده "نحب" فإن المعنى الخطر العظيم وانظر: ديوانه 82 واللسان: " ن ح ب" 4362 والبحر 7/208، وفتح القدير 4/271 ومجمع البيان 7/548 والدر المصون 4/378.
[43364]:قاله الفراء في معانيه 2/340 والزمخشري في الكشاف 3/256.
[43365]:في القرطبي 14/158.
[43366]:المرجع السابق.
[43367]:السابق.