فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

{ منَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } أي من المؤمنين المخلصين رجال صدقوا أتوا بالصدق ، من صدقني إذا قال الصدق ، ومحل { ما عاهدوا الله عليه } النصب بنزع الخافض ، والمعنى : أنهم وفوا بما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة من الثبات معه ، والمقاتلة لمن قاتله ، بخلاف من كذب في عهده ، وخان الله ورسوله وهم المنافقون . وقيل : هم الذين نذروا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا له ولم يفروا ، ووجه إظهار الاسم الشريف ، والرسول في قوله : { صَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } بعد قوله : { مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ } هو قصد التعظيم كما في قول الشاعر :

* أرى الموت لا يسبق الموت شيء *

وأيضاً لو أضمرهما ، لجمع بين ضمير الله وضمير رسوله في لفظ واحد . وقال : صدقا ، وقد ورد النهي عن جمعهما كما في حديث " بئس خطيب القوم أنت " لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى . ثم فصل سبحانه حال الصادقين بما وعدوا الله ورسوله وقسمهم إلى قسمين فقال : { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } النحب : ما التزمه الإنسان واعتقد الوفاء به ، ومنه قول الشاعر :

عشية فرّ الحارثيون بعد ما *** قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر

وقال الآخر :

بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا *** عشية بسطام جرين على نحب

أي على أمر عظيم . والنحب يطلق على النذر والقتل والموت . قال ابن قتيبة : قضى نحبه أي قتل وأصل النحب : النذر . كانوا يوم بدر نذروا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا ، أو يفتح الله لهم فقتلوا ، فقيل : فلان قضى نحبه ، أي قتل ، والنحب أيضاً الحاجة وإدراك الأمنية ، يقول قائلهم : مالي عندهم نحب ، والنحب : العهد ، ومنه قول الشاعر :

لقد نحبت كلب على الناس أنهم *** أحقّ بتاج الماجد المتكرّم

وقال آخر :

* قد نحب المجد علينا نحبا *

ومن ورود النحب في الحاجة وإدراك الأمنية قول الشاعر :

* أنحب فيقضى أم ضلال وباطل *

ومعنى الآية : أن من المؤمنين رجالاً أدركوا أمنيتهم ، وقضوا حاجتهم ووفوا بنذرهم فقاتلوا حتى قتلوا ، وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } قضاء نحبه حتى يحضر أجله كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم ، فإنهم مستمرّون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقتال لعدوّه ، ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم بالقتل ، وإدراك فضل الشهادة ، وجملة : { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } معطوفة على صدقوا ، أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا الله ورسوله عليه كما غير المنافقون عهدهم ، بل ثبتوا عليه ثبوتاً مستمراً ، أما الذين قضوا نحبهم فظاهر ، وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا ولم يغيروا ولا بدّلوا .

/خ25