البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

السحب :النذر ، والشيء الذي لا يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به . قال الشاعر :

عشية فر الحارثون بعيد ما *** قضى نحبه في ملتقى القوم هزبر

وقال جرير :

بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا *** عشية بسطام جرين على نحب

أي على أمر عظيم التزم القيام به ، وقد يسمى الموت نحباً .

وتقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقت زيداً في الحديث .

وقد عدت صدق هذه في ما يتعدى بحرف الجر ، وأصله ذلك ، ثم يتسع فيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه ، ومنه قولهم في المثل : صدقني سن بكره ، أي في سن بكره .

فما عاهدوا ، إما أن يكون على إسقاط الحرف ، أي فيما عاهدوا ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : صدقوا الله ، وإما أن يكون صدق يتعدى إلى واحد ، كما تقول : صدقني أخوك إذا قال لك الصدق ، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب .

وكان المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً ، كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي لك ، وهم وافون به ، فقد صدقوه ، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ، وكان مكذوباً .

وهؤلاء الرجال ، قال مقاتل والكلبي : هم أهل العقبة السبعون ، أهل البيعة .

وقال أنس : نزلت في قوم لم يشهدوا بدراً ، فعاهدوا أن لا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوفوا .

وقال زيد بن رومان : بنو حارثة .

{ فمنهم من قضى نحبه } ، وهذا تجوز ، لأن الموت أمر لا بد منه أن يقع بالإنسان ، فسمي نحباً لذلك .

وقال مجاهد : قضى نحبه : أي عهده .

قال أبو عبيدة : نذره .

وقال الزمخشري : { فمنهم من قضى نحبه } ، يحتمل موته شهيداً ، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقالت فرقة : الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة وفوا بعهود الإسلام على التمام .

فالشهداء منهم ، والعشرة الذين شهد لهم الرسول بالجنة ، منهم من حصل في هذه المرتبة بما لم ينص عليه ، ويصحح هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد سئل من الذي قضى نحبه وهو على المنبر ؟ فدخل طلحة بن عبيد الله فقال : هذا ممن قضى نحبه .

{ ومنهم من ينتظر } : إذا فسر قضاء النحب بالشهادة ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر الشهادة ؛ وإذا فسر بالوفاء لعهود الإسلام ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح .

وقال مجاهد : ينتظر يوماً فيه جهاد ، فيقضي نحبه .

{ وما بدلوا } : لا المستشهدون ، ولا من ينتظر .

وقد ثبت طلحة يوم أحد حتى أصيبت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوجب طلحة » ، وفيه تعريض لمن بدل من المنافقين حين ولوا الأدبار ، وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار .