الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

قوله : { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ } فوفوا به { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ } يعني فرغ من نذره ووفى بعهده فصبر على الجهاد حتى استشهد ، والنحب النذر ، والنحب أيضاً الموت . قال ذو الرمّة :

عشية فر الحارثيون بعدما *** قضى نحبه من ملتقى القوم هوبر

أي مات . قال مقاتل : قضى نحبه يعني أجله ، فقتل على الوفاء ، يعني حمزة وأصحابه . وقيل : قضى نحبه أي [ أجهده ] في الوفاء بعهده من قول العرب : نحبَ فلان في سيره يومه وليلته أجمع [ إذا مد ] فلم ينزل . قال جرير :

[ بطخفة ] جالدنا الملوك وخيلنا *** عشية بسطام جرين على نحب

{ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } الشهادة { وَمَا بَدَّلُواْ } قولهم وعهدهم ونذرهم { تَبْدِيلاً } .

أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا نهر بن أسد عن سليمان بن المغيرة عن أنس قال : وأخبرنا أحمد بن عبد الله المرني ، عن محمد بن عبد الله بن سليمان ، عن محمد بن العلاء عن عبد الله بن بكر السهمي ، عن حميد عن أنس قال : غاب عمّي أنس بن النضر وبه سميت أنس عن قتال بدر فشقّ عليه لما قدم وقال : غبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، والله لئن أشهدني الله عزّ وجلّ قتالاً ليرينّ الله ما أصنع .

قال : فلمّا كان يوم أحُد انكشف المسلمون فقال : اللّهم إنّي أبرءُ إليك ممّا جاء به هؤلاء المشركون ، وأعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ، ثمّ مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ ، فقال : أي سعد والذي نفسي بيده إنّي لأجد ريح الجنّة دون أُحد .

قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس ، فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم ، وقد مثّلوا به ، وما عرفناه حتى عرفته أُخته بثناياه ، ونزلت هذه الآية { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } .

قال : فكنا نقول : نزلت فيه هذه الآية وفي أصحابه . وأخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد ابن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد الترمذي ، عن صالح بن محمد ، عن سليمان بن حرب ، عن حزم ، عن عروة عن عائشة في قوله : { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } قالت : منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أُصيبت يده ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : أوجب طلحة الجنّة .

وبإسناده عن صالح عن مسلم بن خالد عن عبد الله بن أبي نجيح أنَّ طلحة بن عبيد الله يوم أحُد كان محتصناً للنبيّ ( عليه السلام ) في الخيل وقد بُهر النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال : فجاء سهم عابر متوجّهاً إلى النبيّ صلّى الله عليه فاتّقاه طلحة بيده فأصاب خنصره فقال : [ حَس ] ثمّ قال : بسم الله ، فقال النبيّ ( عليه السلام ) : " لو أنَّ بها بدأت لتخطفتك الملائكة حتى تدخلك الجنّة " .

وروى معاوية بن إسحاق ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت : إنّي لفي بيتي ورسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في الفناء وبيني وبينهم الستر إذ أقبل طلحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سرّه أنْ ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة " .

وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال : أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد بن سليمان بن بابويه بن قهرويه قال : أخبرني أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي ، عن محمد ابن عبّاد الواسطي ، عن مكي بن إبراهيم ، عن الصلت بن دينار ، عن ابن نضر ، عن جابر ، عن أبي عبد الله قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول :

" مَنْ سرّه أنْ ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله " .